الحكومات الأردنية والاقتصاد: أثمان متراكمة وامتحان جديد أمام الاستقرار
د. حمد الكساسبة
07-09-2025 08:54 AM
منذ عقود تُشكَّل الحكومات في الأردن وفق اعتبارات سياسية وتوازنات ظرفية أكثر من اعتمادها على الكفاءة الاقتصادية والإدارية، وهكذا تبدأ كل حكومة وكأنها تعيد اكتشاف المشكلات من جديد في غياب معايير أداء واضحة أو آليات محاسبة فعالة، فيتحول العمل العام إلى إدارة مرتبكة أقرب إلى التجربة والخطأ منها إلى الإدارة الموجهة بالنتائج.
وقد تعمق هذا النهج منذ عام 2009 حين ارتبطت معظم التشكيلات الحكومية ببرامج الإصلاح المالي المتفق عليها مع صندوق النقد الدولي بينما تراجع حضور الرؤى الوطنية الشاملة، فأصبح جل الاهتمام منصبًا على الوفاء بالالتزامات المالية، وغاب التركيز الفاعل على تحسين مستوى حياة الناس وتعزيز فرصهم الاقتصادية. وكانت النتيجة تراكم الدين العام وتفاقم البطالة وتراجع الاستثمارات، مع اعتماد متزايد على القروض والمساعدات دون بناء سياسات إنتاجية طويلة المدى.
الأرقام تكشف بوضوح حجم المأزق: الدين العام تجاوز 110% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين ظل النمو عند 2-3% لأكثر من عقد، وهو مستوى لا يكفي لمجاراة النمو السكاني أو لتوليد فرص عمل. وهذه المؤشرات تعكس ليس فقط ضغوطًا مالية، بل أيضًا ثمن غياب التخطيط وضعف الاستقرار الإداري.
كما ساهم غياب إصلاح حقيقي للقطاع العام في تعميق الأزمة، إذ ظلت بنيته البيروقراطية تستهلك الموارد بدل أن تكون أداة للتنمية، فيما بقيت الشراكة بين القطاعين العام والخاص مجرد شعارات بلا مضمون، الأمر الذي أعاق التكامل المطلوب لتحفيز النمو. وقد تحولت هذه الاختلالات إلى عبء ممتد على الأجيال القادمة، التي وجدت نفسها مسؤولة عن ديون وفرص مهدورة لم تشارك في صنعها.
ورغم أن الأردن يمتلك موارد بشرية مؤهلة وموقعًا استراتيجيًا، إلا أن الاعتماد المتكرر على الاقتراض ورفع الضرائب جعل المواطن يتحمل التضخم وتراجع القوة الشرائية وضعف الخدمات. كما تعمقت الفجوة التنموية بين العاصمة والمحافظات، حيث تركزت الاستثمارات في عمّان بينما بقيت مناطق واسعة تعاني من ضعف المشاريع الإنتاجية، ما رسّخ الشعور بعدم العدالة وزاد اعتماد المحافظات على المساعدات بدل المشاركة في التنمية.
وفي الوقت نفسه أُهدرت فرص حقيقية في قطاعات واعدة مثل الطاقة المتجددة والاقتصاد الرقمي والخدمات اللوجستية، وذلك نتيجة غياب التنسيق بين السياسات المالية والنقدية والتجارية والاستثمارية. فقد ركزت وزارة المالية على العجز، بينما شدد البنك المركزي سياساته لمكافحة التضخم، دون توافق مع سياسات استثمارية وتجارية قادرة على تحريك عجلة النمو. كما أن محاولات بعض الحكومات إدخال إصلاحات جزئية كتحديث التشريعات أو إطلاق مبادرات رقمية واستثمارية بقيت محدودة الأثر بسبب غياب الاستمرارية وعدم ربطها بمؤشرات أداء قابلة للقياس، فسقط أثرها سريعًا مع رحيل تلك الحكومات.
أما الحكومة الحالية فقد جاءت بخصوصية مختلفة، إذ تشكلت على أساس رؤية التحديث الاقتصادي 2033 المصحوبة ببرنامج تنفيذي وأهداف واضحة. كما أن رئيس الحكومة وعددًا من الوزراء كانوا قد شاركوا في حكومات سابقة منذ عام 2009 وأسهموا في صياغة هذه الرؤية منذ بداياتها، ما منحهم رصيدًا متراكمًا من الخبرة والمعرفة بطبيعة الاختلالات الاقتصادية. وإلى جانب ذلك تحظى هذه الحكومة بدعم سياسي ومالي وتشريعي وفني أوسع مما كان متاحًا لسابقاتها، ما يوفر لها فرصة استثنائية للانتقال مباشرة إلى التنفيذ. ولهذا فإن أي تأخير في الإنجاز أو الاكتفاء بالتصريحات سيضعف الثقة العامة، خاصة أن المواطن أصبح أكثر وعيًا ويقيّم الحكومة بما يلمسه في حياته اليومية من فرص عمل وخدمات لا بما يقال في البيانات الإعلامية.
وتجد الحكومة نفسها اليوم أمام معادلة دقيقة تجمع بين استحقاقات برنامج الإصلاح المالي مع صندوق النقد الدولي الذي يركّز على ضبط العجز وخفض المديونية، وبين أهداف رؤية التحديث الاقتصادي التي تسعى إلى تحفيز النمو وجذب الاستثمار وخلق فرص العمل. وهذه المعادلة لا تتحقق من خلال الأرقام المالية وحدها، بل تحتاج إلى بيئة مؤسسية قادرة على تحويل السياسات إلى نتائج ملموسة. ومن هنا تبرز أولوية إصلاح القطاع العام وتمكين القطاع الخاص عبر شراكة حقيقية تُبسط الإجراءات وتزيد الكفاءة وتفتح المجال أمام استثمارات جديدة. فالتوازن المالي، مهما كان ضروريًا، لن يترجم إلى تحسن في حياة الناس ما لم يقترن بنمو إنتاجي وفرص عمل واقتصاد أكثر تنافسية.
ويضاف إلى هذه التحديات الداخلية بعدٌ إقليمي ضاغط، إذ يواجه الأردن أخطارًا أمنية واقتصادية متزايدة نتيجة السياسات الإسرائيلية التي تهدف إلى فرض التهجير على الشعب الفلسطيني، وهو ما يشكل تهديدًا مباشرًا للاستقرار الديمغرافي والاقتصادي في الأردن. ومن هنا، فإن مسؤولية الحكومة تتجاوز الإصلاح الاقتصادي إلى بناء سياسات قادرة على حماية البلاد من ارتدادات هذه السياسات، عبر تعزيز صمود الداخل وتحصين الاقتصاد الوطني.
وفي النهاية، فإن استمرار النهج التقليدي لم يعد ممكنًا. المواطن لم يعد قادرًا على تحمّل ضرائب إضافية بلا مقابل، والاقتصاد لم يعد قادرًا على استيعاب مزيد من الديون دون نمو حقيقي. وإذا نجح الأردن في رفع معدل النمو إلى 5% خلال السنوات المقبلة يمكن أن ينخفض الدين إلى أقل من 90% من الناتج المحلي مع تحسن ملموس في الاستثمار والتشغيل. أما البقاء عند مستويات 2-3% فسوف يرفع الدين إلى أكثر من 120% ويعمّق أزمة الثقة والاستثمار. ومن هنا، فإن نجاح الحكومة الحالية ضرورة وطنية، فهي حكومة جلالة الملك وتحظى بثقته، ونجاحها في التنفيذ هو نجاح للأردن واقتصاده ومجتمعه بأسره.