جلالة الملكة تكسر الصمت العالمي أمام ما يجري في غزة
السفير الدكتور موفق العجلوني
07-09-2025 11:02 AM
في عالمٍ تتقاطع فيه الأزمات وتتزايد فيه التحديات، وفي لحظةٍ فارقة من التاريخ الإنساني، ارتفعت كلمات جلالة الملكة رانيا العبد الله حفظها الله لتكون مرآة للضمير الحيّ، ونداءً أخلاقيًا يعلو فوق الضجيج، حاملةً في طيّاتها موقفًا واضحًا، جريئًا، وأخلاقيًا لا يقبل المساومة، مما يجري في قطاع غزة من دمار ومعاناة، ومؤكدة أن صمت العالم لا يليق بالإنسانية.
في كلمتها خلال مؤتمر "سيغلو المكسيك"، أمام حشدٍ من الطلبة والشباب في أمريكا اللاتينية، لم تكتفِ جلالة الملكة برصد المأساة بل ألبستها لباس الحقيقة. تحدثت عن غزة لا بوصفها مكانًا جغرافيًا منكوبًا، بل بوصفها عدسة أخلاقية تُجبر العالم على إعادة تعريف القيم، واختبار الضمير العالمي في لحظة لم يعد ممكناً فيها الاختباء خلف الشعارات المجوّفة أو المواقف الرمادية.
قالتها جلالتها بصراحةٍ ملكية لا تعرف الالتفاف: "غزة اليوم تشكل العدسة التي تفرض علينا رؤية الأمور بوضوح أخلاقي"، معلنةً موقفًا ينحاز للحق، لا للأهواء السياسية، وللإنسان، لا لموازين القوى.
وصفت جلالتها حجم الدمار في غزة بأنه "كارثي"، لكن وصفها لم يكن مجرد إدانة لفظية، بل تحليل أخلاقي عميق للوحشية التي تُمارس باسم الشرعية، وللصمت الذي يلبس عباءة الحياد. لم تتردد في تسمية الأمور بأسمائها: منازل وتواريخ تسحق تحت الركام، حصار شامل يخنق شعبًا بأكمله، أطباء منهكون من الجوع، صحفيون يُقتلون، وحقائق تُحرّف بلا خجل.
إنها كلمات تجسّد شجاعة نادرة في زمن عزّ فيه الصوت الأخلاقي، حيث قالت جلالتها: "لا يوجد عالم يمكن فيه تبرير قصف المستشفيات، أو تجويع الأطفال، أو إطلاق النار على أناس يسعون إلى المعونة".
لم تكتفِ جلالة الملكة، في خطابها الملكي المترفّع عن الشعبوية، بتوصيف الألم، بل دعت إلى وقفة تأمل صادقة، لإعادة النظر في القيم التي يُبنى عليها مفهوم التقدم والتحضّر. فليست الدول التي تحقّق أعلى معدلات الناتج المحلي الإجمالي بالضرورة أكثر تحضرًا، بل إن التحضر الحقيقي يقاس بكيفية تعامل الأمم مع المستضعفين، في أحلك اللحظات.
تحدثت جلالتها عن أزمة التعاطف العالمي، حيث باتت القوة الاقتصادية تُقدَّم على الأخلاق، والمكانة الجيوسياسية تُغَلَّف بشرعيةٍ مزعومة تُنكر معاناة الملايين. وأكّدت أن تعريفنا للقيادة يجب أن يُبنى على البصيرة والرحمة، لا على المصالح الباردة.
لم تنسَ جلالتها أن تُبرز مواقف الأردن التاريخية، بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين حفظه الله ، الداعمة للسلام والعدل، والمناصرة للحق الفلسطيني منذ عقود. فقد فتح الأردن أبوابه للملايين، ووقف مع المهمّشين والمنكوبين، وجاب العالم، ورفع صوته من أجل القيم المشتركة، في وجه عالمٍ كثيرًا ما يميل إلى الانتقائية في مبادئه.
جلالة الملكة رانيا، وبحسّها الإنساني العميق، وجهت تحية احترام وتقدير إلى الشباب حول العالم الذين رفضوا الصمت، ووقفوا دفاعًا عن الفلسطينيين، متحدّين الروايات الرسمية، ومتجاوزين حدود الجغرافيا. ووصفت صمودهم بأنه "تجسيد للشجاعة الأخلاقية في عالم تائه"، مشيرة إلى أن هؤلاء الشباب، هم من سيعيدون للإنسانية توازنها الأخلاقي.
أما عن مرجعها الأخلاقي، فقد أكدت جلالة الملكة أن إيمانها العميق هو بوصلة قيمها هو الإسلام، ليس فقط ديناً بل نظام حياة يقوم على الرحمة، والكرامة، والعدالة، والعطاء. وخاطبت الحضور بالقول: "مهما كان مرساك الأخلاقي، ابحث عنه وتمسك به، سيساعدك على التعلّم من الآخرين دون أن تنتقص من نفسك".
واختتمت جلالتها خطابها بآية قرآنية تحمل في طيّاتها فلسفة عميقة حول البصيرة القلبية، في زمنٍ أصبحت فيه العيون ترى ولكن القلوب تُعرض، لتذكّر العالم بأن العمى الحقيقي ليس عمى البصر، بل عمى الضمير.
و اخيراً ليس اخراً ، شكّل خطاب جلالة الملكة رانيا العبدالله وثيقة أخلاقية وإنسانية، تمثل صوت العقل وسط جنون السياسة، وصوت القلب في زمن الحسابات الباردة. لقد قالت جلالتها ما عجز كثيرون عن قوله، فكانت كما عهدها العالم، صوتًا ملكيًا ناطقًا بالحقيقة، ومرآةً لضميرٍ لا ينكسر أمام الظلم.
في زمنٍ تتشظى فيه القيم، يبقى صوت جلالة الملكة رانيا رعاها الله ثابتًا، واضحًا، ومُلهمًا… صوتٌ يقول للعالم: "افتحوا أعينكم… وقلوبكم."
* مركز فرح الدولي للدراسات والأبحاث الاستراتيجية
muwaffaq@ajlouni.me