عندما كان أصحاب السيارات مثل الحاج صبحي البحبوح ..
محمود الدباس - أبو الليث
08-09-2025 11:10 PM
قبل عدة سنوات.. كنت مع صديق لتأدية واجب عزاء.. فتوقفنا في مكان بعيد بعض الشيء عن صيوان العزاء.. كي لا نعيق أحدا.. وإذ بسيارة فارهة تقف بجانبنا.. فكانت سيارة الحاج صبحي البحبوح الدباس "ابو ماهر" -عليه رحمة الله- وهو وجه عشيرة الدبابسة.. ورجل من رجالات البلقاء.. وليس السلط فقط.. والرجل الذي تخطى الثمانين من العمر.. ترجل مبتسما.. ولما أشار عليه صديقي.. إلى وجود أماكن فارغة قرب صيوان العزاء.. أجابه أبو ماهر بعبارته الخالدة "يا ابن أخوي.. المشي منيح.. وانا صبحي البحبوح.. بسيارة.. ومن غير سيارة.. وبعدين هون لا بنسكّر على حدا.. ولا حدا بيسكّر علينا".. كلمات بسيطة.. قالها بصدق.. لكنها في الحقيقة.. تختصر مروءة جيل كامل..
تذكرت تلك الحادثة.. حين أرسل إلي صديقي صورة لسيارةٍ تسد الشارع أمام مدرسته.. مالكها أوقفها بلا مبالاة.. وكأن الطريق ملك خاص.. غير آبه بزحمة السير.. ولا بعشرات السائقين المتعطلين بسببه.. هذا المشهد ليس غريبا.. بل أصبح جزءا من يومياتنا.. لأن بعض الناس ابتلوا بداءٍ أسميه "هوية السيارة".. تراهم يوقفون سياراتهم حيث يشاؤون.. ويظنون أن قيمة الإنسان.. تقاس بما يركب.. لا بما يترك في نفوس الآخرين من أثرٍ كريم..
يا ليت المشكلة تقف عند أبواب المدارس.. لكنها تتكرر عند المحلات التجارية.. وحول الصالات.. وفي المضافات.. بل حتى عند أبواب المساجد.. ترى الرجل يغلق الطريق كله.. بحجة أنه مستعجل للحاق بالصلاة.. يركن سيارته في وسط الشارع.. ثم يدخل مطمئنا.. وكأنه على صواب.. يركع.. ويسجد.. ويطيل الأذكار والتسبيح.. بينما عشرات الأرواح محبوسة خلف زجاج سياراتها بسببه.. يظن نفسه في عبادة.. وهو في الحقيقة يرتكب أذى مضاعفا.. أذى للناس.. وأذى لمعنى العبادة.. فهل يرضى الله صلاةً تُبنى على ظلم الآخرين؟!..
الأدهى من ذلك.. أن بعض أصحاب السيارة الفارهة.. وخصوصاً إذا كانت تحمل رقما مميزا.. يكاد يتمنى لو سُمح له أن يدخل بها إلى الصيوان او المضافة.. ليصافح الناس وهو خلف المقود.. كأنه نسي أن الرجال لا تُعرف بأرقام سياراتها.. بل بمواقفها.. وأن الاحترام لا يُشترى من المعارض.. بل يُصنع بأخلاق حقيقية..
ولن اتغاضى عن أمر آخر.. فلقد كان "المعزبين" في أي مناسبة يوقفون سياراتهم بعيداً.. كي يتركوا المجال قرب مكان المناسبة لضيوفهم.. اكان صيوان أو مضافة. أو حتى بيت.. واليوم ترى العكس تماما.. أصاحب المناسبة أنفسهم يتزاحمون على أقرب مكان للباب.. وكأنهم الأَولى بالموقف من غيرهم.. فأي انقلاب أصابنا؟!..
نحن أمام مرض اجتماعي.. لا يقل خطورة عن أي آفة أخلاقية أخرى.. مرض أيضا اسميه "أنا وسيارتي".. يقتل فينا الذوق العام.. ويزرع مكانه "الفشخرة" والأنانية.. وما لم نصحُ من غفلتنا.. فسنجد أنفسنا نركض نحو الفراغ.. حيث لا يبقى من الإنسان.. سوى صفيح يلمع.. لكن لا يضيء..