شايفين الذيب .. ونقص في أثره
محمود الدباس - أبو الليث
13-09-2025 10:17 AM
كثيرون يختارون العيش في وهم جميل.. مع أن الحقيقة ماثلة أمامهم.. واضحة كالشمس.. ومع ذلك.. يصرون على إنكارها.. أو تجميلها.. أو تأجيل مواجهتها.. حتى يصبح الباطل حقاً في عيونهم.. وتغدو الكارثة مألوفة.. وكأنها جزء من الحياة اليومية..
في الاقتصاد مثلاً.. لا يحتاج المواطن إلى بيانات رسمية.. كي يعرف حجم الأزمة.. يكفي أن ينظر إلى جيبه قبل منتصف الشهر.. أو إلى فاتورة طعامه البسيط.. ليكتشف أن الأرقام لا تكذب.. ومع ذلك.. تخرج أصوات تصر على أن كل شيء بخير.. فتتجمد العقول.. بين حقيقة يعيشها الناس.. ورواية تُفرض عليهم لتسكين الألم.. فيصدق البعض الرواية.. ويكذب ما بين يديه من واقع.. وكأنهم يرون الذئب ويبحثون عن أثره..
وفي السياسة.. كم من قرار يُفرض دون نقاش.. وتظهر نتائجه سريعاً على الناس.. ومع هذا تجد مَن يبرر.. ويزيّن.. ويختلق الحجج.. بدلاً من أن يعترف بالخطأ.. ويعمل على إصلاحه.. هؤلاء لا يغيرون مجرى التاريخ.. بل يؤخرون انفجاره.. وحين ينفجر.. يكون الثمن أضعافاً.. لأن تجاهل الحقيقة لا يلغيها.. بل يجعلها أثقل وأقسى عند عودتها..
أما في الصراع مع الكيان الصهيوني.. فالحقيقة كانت واضحة منذ اليوم الأول من هجومه على غزة.. لم يكن هناك نية لإيقاف الحرب.. بل سارت الخطة على الإطالة الممنهجة.. فبدلاً من مجزرة كبيرة.. تهز العالم دفعة واحدة.. اختاروا القتل البطيء.. ستين شهيداً في اليوم كمتوسط.. كي يعتاد الناس على الموت.. ويصبح جزءاً من المشهد اليومي.. بينما يُصَفّون القيادات واحداً تلو الآخر.. ويدّعون أنهم يستهدفون سلاح المقاومة.. وأن المقاومة ما زالت تقاتل وتمتلك السلاح.. فالمشهد يقول شيئاً.. والخطاب الدعائي يحاول أن يقول عكسه..
وحتى حين امتد الذراع الإسرائيلي إلى الدوحة.. في محاولة لاغتيال قيادات المقاومة السياسية.. كان المشهد أوضح من أن يُنكر.. طائرات تصل إلى منطقة مغطاة بالرادارات والقواعد الأميركية.. ثم تمر وكأن شيئاً لم يكن.. كيف لم تُرصد؟!.. وكيف نفدت القيادات المستهدفة؟!.. أليس الكيان الذي اخترق إيران ولبنان واليمن.. وهي المحصنة والمتوقعة لما تم.. قادراً على تنفيذ عملية في منطقة مسالمةٍ كهذه؟!.. هنا تبرز الرسالة الجلية.. أن الهدف لم يكن الاغتيال.. بل إحراج قطر.. وإجبارها على إخراج قيادات المقاومة من أراضيها.. مع رسالة أخرى لا تقل وضوحاً.. أن الكيان الإسرائيلي لم يعد يكترث بفتح أي جبهة.. حتى لو كانت الأكثر هدوءاً معه.. لأن الثقة بغطاء الحماية.. أكبر من أي حسابات أخرى..
وهكذا.. تتكرر القاعدة نفسها.. الحقائق ظاهرة أمامنا.. لكننا نصر على البحث عن أدلة إضافية.. أو نغطيها بخيال مريح.. فنصبح كمن يقف أمام الذيب.. ثم ينحني ليتفقد التراب بحثاً عن أثره..
فالحقائق لا تختبئ.. نحن من نختبئ منها.. نطارد الأثر.. والذيب أمام أعيننا.. نُطيل أعمار الأوهام بالكذب.. ونمنّي النفس بغير الواقع.. مع أن ما ينقصنا ليس الدليل.. بل الشجاعة للاعتراف.. والجرأة للفعل.. فالصمت في حضرة الحقيقة كذب بارد.. وخيانة تفتح الطريق لذيب آخر أشد شراسة..