facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




هل خذلتنا القمة؟


د. محمود الشغنوبي
16-09-2025 11:51 AM

مع انتهاء أعمال القمة العربية، وإصدار البيان الختامي المعتاد، يتكرر السؤال الأبدي: هل استطاعت هذه القمة أن تلامس تطلعات الشعوب العربية وأن تقدم إجابات حقيقية على الأسئلة المصيرية التي تواجهها؟ عند تحليل البيان بعين منطقية وبمعزل عن الخطاب الدبلوماسي، نجد أنفسنا أمام وثيقة تكرس الفجوة بين الطموح والواقع، بين القول والفعل.

المنطق يقودنا أولاً إلى تحليل لغة البيان نفسه، فالعبارات مطاطة ومحتشدة بالعموميات، مثل "التأكيد على" و"الدعوة إلى" و"التشديد على أهمية". هذه العبارات تخلو من أي التزام محدد أو إطار زمني أو حتى مؤشرات أداء قابلة للقياس. على سبيل المثال، الحديث عن "تعزيز التعاون الاقتصادي" يبقى مجرد أمنية إذا لم يُرفق بخطة تنفيذية واضحة تحدد المشاريع وآليات التمويل وتقاسم المنافع. المنطق البسيط يقول أن الهدف بدون خطة هو مجرد أمنية، والبيان غني بالأماني وفقير بالخطط.

ثانيًا، يتعامل البيان مع القضايا الساخنة كفلسطين بخطاب تقليدي يجترّ الشجب والاستنكار دون أن يقدم أدنى تقدم في الأدوات أو الاستراتيجيات. فبينما الواقع على الأرض يشهد تغييرات جيوسياسية كبيرة وتصعيدًا مستمرًا، يبدو رد الفعل الرسمي وكأنه مسجل على شريط قديم. المنطق يقتضي أن التحديات المتغيرة تحتاج إلى استجابات متطورة. إذا ظل الفعل نفسه يتكرر (إصدار البيانات) وتتغير النتائج نحو الأسوأ، فإن الاستراتيجية تكون قد فشلت منطقيًا في تحقيق الهدف المعلن.

وهنا يبرز السؤال المحوري: ما الذي كانت تنتظره الشعوب تحديداً ويصعب على القادة تحقيقه؟ كانت تنتظر تحولاً من "خطاب التضامن" إلى "فعل التضامن" الحقيقي. كانت تنتظر قرارات هيكلية، مثل فتح معابر تجارية عربية مباشرة مع الفلسطينيين أو فرض عقوبات جماعية على الأطراف التي تهدد الاستستقرار الإقليمي. لكن هذا التحول يتعارض مع حسابات المصلحة الوطنية الضيقة لكل نظام، ومع شبكة التحالفات الخارجية المتشابكة والمتناقضة أحياناً، والتي أصبحت شبكة أمان للعديد من هذه الأنظمة. كانت الشعوب تنتظر إرادة سياسية تعلو على هذه الحسابات، لكن ذلك هو بالضبط ما يصعب على القادة تقديمه، لأن تلك الحسابات هي ضمان بقائهم.

أما من ناحية التناقض الداخلي، فإن البيان يسقط في فخه الخاص. فهو من ناحية يتحدث عن "سيادة الدول" و"عدم التدخل في الشؤون الداخلية" كأصل مقدس، ولكن من ناحية أخرى يعجز عن تقديم حل حقيقي للقضايا التي تمزق بعض هذه الدول ذاتها، حيث يصبح مبدأ السيادة ذريعة للتقاعس عن عمل جماعي فعال. المنطق يشير إلى أن التمسك بحرفية مبدأ ما حتى عندما يفقد جوهره (الأمن والاستقرار للشعوب) هو تناقض مع الهدف الأسمى من وجود النظام العربي نفسه.

وفي ملفات الأزمات الداخلية في سوريا وليبيا واليمن، يطغى منطق "إرجاء المواجهة" و"التمني بحلول سياسية" دون أدنى ضغط حقيقي على الأطراف المتحاربة أو حلفائها. البيان يعالج الأعراض (اللاجئون، الأمن الإقليمي) ويتجنب جوهر الداء وهو انعدام الإرادة السياسية لفرض حلول. المنطق يحكم بأن من يعالج العرض وليس المرض يضمن استمرار المعاناة إلى أجل غير مسمى.

تُظهر دراسة حالة العلاقات الأردنية السورية إحدى المفارقات الأكثر إيلامًا في النظام العربي. فبينما تتردد القمم الجماعية في اتخاذ قرارات جريئة، نجد أن دولًا مثل الأردن وسوريا تدفع ثمناً باهظاً لمواقفها الأكثر حزماً والتي تخرج أحياناً عن الإجماع العربي. فبعد سنوات من التوتر بين البلدين بسبب موقف الأردن الداعم للمعارضة السورية خلال الصراع ، شهدت الفترة الأخيرة تقارباً ملحوظاً تجلى في سلسلة زيارات متبادلة رفيعة المستوى، بلغت ذروتها بتشكيل "مجلس التنسيق الأعلى" بين البلدين . هذا المجلس، الذي يضم قطاعات متعددة من الطاقة إلى الأمن، يمثل محاولة جادة لبناء تعاون استراتيجي يتجاوز حدود الجوار الجغرافي.

لكن هذا التقارب لم يأت من فراغ، بل جاء نتيجة إدراك مخاطر حقيقية تواجه البلدين. فالأردن، الذي يعاني من تهديدات أمنية مباشرة على حدوده مع سوريا، بما في ذلك تهريب المخدرات (وخاصة حبوب الكبتاجون) والأسلحة ، وجد نفسه مضطراً لتبني خطاب أكثر حسماً وتعاوناً مع السلطات السورية الجديدة. كما أن الامتدادات العشائرية عبر الحدود جعلت الأردن معنيًا مباشرةً بما يحدث في محافظات مثل السويداء ودرعا، حيث الروابط الاجتماعية المتشابكة تجعل من الأزمة السورية أزمة أردنية داخلية أيضاً.

وفي أزمة السويداء الأخيرة برز الدور الأردني بشكل لافت كوسيط فاعل و"حائط صد" ضد مخاطر التقسيم والتدخلات الخارجية. حيث قادت عمّان جهوداً دبلوماسية مكثفة، بالشراكة مع الولايات المتحدة وسوريا، للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار . هذا الموقف لم يكن مجرد تصرف انفرادي، بل كان انعكاساً لمخاوف أمنية وجودية: خشية الأردن من "مسألة الانفصال الجغرافي في سوريا وتأثيراتها المستقبلية على الأمن القومي الأردني" . فسوريا موحدة ومستقرة هي حاجز أمني للأردن، بينما سوريا مفككة ستُطلق العنان لفوضى ستطال جاراتها لا محالة.

هذا الموقف الأردني الحازم، رغم إيجابيته، يضع البلد في موقف بالغ الحساسية. فمن ناحية، يُظهر أن الدول التي تتبنى خطابات واضحة ومباشرة - حتى لو خرجت عن السرب الدبلوماسي العربي أحياناً - هي من يقود العمل الحقيقي على الأرض. لكن من ناحية أخرى، فإن هذه الدول تدفع ثمناً باهظاً: فالخطاب القوي يورطها ويجعلها في الخط الأمامي للمواجهات، بينما تتراجع الدول الأخرى إلى الخلف لتشكل حشوداً صامتة تنتظر النتائج. الأردن، في هذه الحالة، وجد نفسه منفرداً في مواجهة تهديدات المخدرات والإرهاب والتدخلات الإسرائيلية في الجنوب السوري، بينما كان من المفترض أن يكون هناك عمل عربي جماعي يدعم هذا الموقف ويحمي ظهره.

ختامًا، عندما يُختزل دور القمة في إنتاج بيان يخلو من الجرأة والوضوح والآليات الملموسة، فإن الإجابة على سؤال "هل خذلتنا القمة؟" تصبح، منطقيًا وبكل أسف، بالإيجاب. لم تخذلنا لأنها فشلت في تحقيق المستحيل، بل لأنها فشلت حتى في المحاولة الجادة باستخدام الأدوات المتاحة. لقد تركتنا وجهاً لوجه مع حقائقنا المرّة: أن هناك فجوة هائلة بين خطاب الوحدة والعمل الفردي، وبين حجم التحديات وضآلة الاستجابة. الخذلان ليس في عدم تحقيق النتائج، بل في عدم الاقتراب حتى من بداية الطريق الصحيح، وهو ما يكشف أن الخلل ليس في القمة بل في بنية النظام العربي نفسه الذي لم يعد قادراً على إنتاج أي قرار يتجاوز حدود الدولة القطرية ومصالحها الضيقة.

والأكثر إيلاماً أن هذا النظام يكافئ الصمت والتخوين، ويعاقب الصريح والشجاع. فالدول التي ترفع صوتها عالياً وتتحرك على الأرض، كما في حالة الأردن وسوريا في مساعيهما الحديثة للتعاون، تُترك في المقدمة لتتلقى الضربات وحدها، وكأنها حائط الصد المنهك الذي يحمي بجسده غرفاً خلفية آمنة ترفض حتى مجرد منحه الدعم المعنوي. إنها معادلة الخذلان الأكبر: التضحية بالشجعان والصامدين على حدود الأمة، ومكافأة المتخاذلين والمتفرجين في قممها.

وسلامتكم.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :