ما بين قمة الدوحة وتصريحات ماركو روبيو في اسرائيل
السفير الدكتور موفق العجلوني
18-09-2025 03:16 PM
تصريحات وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو لم تأتِ في لحظة عابرة، بل تزامنت مع القمة العربية الإسلامية التي عقدت في الدوحة، ما يمنحها دلالات سياسية عميقة لا يمكن تجاهلها. فحين يقول روبيو إن الهجوم الإسرائيلي على قطر "غير مريح"، ولكنه لن يؤثر في العلاقة مع إسرائيل، فإن ذلك يُعبّر عن:
ازدواجية المعايير الأميركية بشكل صارخ: القيم التي ترفعها واشنطن، مثل احترام سيادة الدول وحقوق الإنسان، تُعلّق حين تكون إسرائيل هي الطرف المُعتدي.
أولوية المصالح على المبادئ: السيادة القطرية تُهدَر دون موقف أميركي حازم، لأن ثبات العلاقة مع إسرائيل هو الهدف الأعلى، حتى على حساب شركاء استراتيجيين مثل قطر.
هذه التصريحات تُمثّل ما يمكن تسميته بـ "صفعة سياسية موجهة لكل حليف عربي"، وتُظهر أن التحالف مع واشنطن ليس ضمانًا، لا للحماية، ولا حتى للاحترام.
قمة الدوحة، التي أتت في ظل تصعيد إقليمي حاد، حملت خطابًا وحدويًا، دعت فيه الدول العربية والإسلامية إلى تنسيق المواقف، والوقوف في وجه الانتهاكات الإسرائيلية، ورفض تسييس المعايير الدولية. لكن المفارقة أن الخطاب الوحدوي في القمة تزامن مع تجاهل أميركي فاضح للاعتداء الإسرائيلي. لم يصدر رد فعل عربي موحّد أو عملي على تصريحات روبيو، ولا على زيارته لإسرائيل. توقيت زيارة ماركو روبيو إلى إسرائيل – بعد يوم واحد من العدوان – يحمل رسائل عميقة:
رسالة دعم مباشر لتل أبيب: التوقيت لا يمكن فصله عن الحدث، والزيارة بهذا الشكل تُعد مباركة ضمنية للهجوم.
تكريس مبدأ "الحصانة الدائمة" لإسرائيل: حتى عندما يكون الضحية دولة مثل قطر، تُعتبر حليفًا تقليديًا لواشنطن، لا يتم استنكار الهجوم.
إعادة رسم الأولويات الأميركية في الشرق الأوسط: الأمن الإسرائيلي فوق كل اعتبار، والدول العربية أدوات وظيفية مؤقتة في السياسة الأميركية.
في ضوء هذه التطورات، يمكن استشراف عدد من السيناريوهات:
إعادة تقييم العلاقات العربية – الأميركية ، قد تتجه بعض الدول (مثل قطر) إلى إعادة حساباتها الإستراتيجية. لكن التغيير الحقيقي يتطلب موقفًا جماعيًا عربيًا، وهو ما يبدو بعيد المنال في ظل الانقسام السياسي الراهن.
تصاعد المشاعر الشعبية المعادية للهيمنة الأميركية ، الشارع العربي يرى اليوم بوضوح أن السيادة العربية لا تُحترم. هذا قد يُغذّي خطابات المقاومة، وربما يُعيد إحياء شعارات الاستقلال السياسي عن الغرب.
محاولات لتعزيز التحالفات الإقليمية بعيدًا عن واشنطن ، قد تشهد الفترة المقبلة تقاربًا أكبر بين الدول العربية وتركيا، إيران، أو حتى الصين وروسيا، في محاولة لكسر الاحتكار الأميركي.
مزيد من الانتهاكات الإسرائيلية دون رادع. التصريحات الأميركية تمنح إسرائيل الضوء الأخضر لتكرار مثل هذه العمليات في دول عربية أخرى، ما لم يكن هناك ردع جماعي حقيقي.
وحين وصف روبيو العدوان الإسرائيلي على قطر بـ"غير المريح"، دون أن يتفوّه بكلمة إدانة واحدة، فإن ما قاله أهم مما لم يقله. فالمسألة لم تكن فقط في الكلمات، بل فيما تعنيه ضمنًا تلك اللغة الباردة: أن الأمن القطري والسيادة الخليجية، وحتى الشراكة الاستراتيجية، كلها تأتي بعد العلاقة "المقدسة" مع إسرائيل: "ما حصل لن يغير طبيعة علاقتنا مع إسرائيل"، وهي عبارة كفيلة بكشف الحصانة السياسية التي تتمتع بها تل أبيب، حتى عندما تُهاجم دولة صديقة لواشنطن، وتخترق أراضيها دون إذن أو تنسيق أو حتى اعتبار.
وتأتي هذه التصريحات في توقيت شديد الحساسية، تزامنًا مع انعقاد القمة العربية الإسلامية، التي حملت في بيانها الختامي تأكيدًا على السيادة، ورفضًا للانتهاكات، ودعوة إلى احترام القانون الدولي.
لكن، ما جدوى الخطابات، حين يخرج أبرز مسؤول دبلوماسي أميركي ليُعلن بوضوح أن بلاده لن تتزحزح قيد أنملة عن دعم إسرائيل، حتى لو كانت الضحية دولة عربية صديقة؟
في اليوم التالي للهجوم، وزير الخارجية الأميركي ماركو في روبيو إسرائيل. زيارة لم تكن بروتوكولية ولا عفوية، بل حملت رسالة صريحة: "نحن معكم مهما فعلتم". لا بلغة الدبلوماسية، بل بلغة الفعل الميداني. إن زيارة المسؤول الأميركي إلى تل أبيب في هذا التوقيت تمثل – سياسياً – غطاءً إضافيًا للهجوم، وربما تشجيعًا مستترًا لتكراره.
تصريحات روبيو وزيارته يجب أن تُقرأ في سياق أوسع، التحالف الأميركي – الإسرائيلي بات فوق أي اعتبار، حتى لو على حساب سيادة الحلفاء. الشارع العربي يفقد تدريجيًا ثقته في جدوى "الشراكة مع واشنطن"، مع كل حادثة جديدة تؤكد أن تلك العلاقة غير متكافئة ولا تحمي أحدًا.
جاءت القمة في لحظة حرجة تمر بها المنطقة، مع تصعيدات إسرائيلية غير مسبوقة، وتدهور إنساني في غزة، واعتداءات على دول عربية. انعقادها في هذا التوقيت أعطى زخمًا سياسيًا كبيرًا ورسالة واضحة بأن المنطقة لم تعد تقبل فرض الأمر الواقع. للمرة الأولى منذ مدة طويلة، شهدنا قمة تجمع العرب والمسلمين على موقف مشترك تجاه الاعتداءات الإسرائيلية والانحياز الأميركي. هذا الإجماع يُعتبر رصيدًا دبلوماسيًا يمكن البناء عليه في المحافل الدولية. فقد أعادت القمة القضية الفلسطينية إلى صدارة الأولويات الإقليمية بعد سنوات من التجاهل والتهميش. وتم التركيز على مدينة القدس، وحق العودة، ورفض التطبيع دون حل عادل.
القمة تبنّت موقفًا رافضًا للانتهاكات الإسرائيلية، بما فيها العدوان على قطر، وأكدت أن السيادة العربية ليست ورقة تفاوض. ووضعت حجر الأساس لمزيد من العمل المشترك على المستوى السياسي والإنساني والإعلامي، بما يشمل:
تنسيق الجهود الإغاثية لغزة.
التحرك في المؤسسات الدولية لمحاسبة إسرائيل.
تشكيل جبهة دبلوماسية موحّدة.
سلطت القمة الضوء على ازدواجية المعايير الأميركية، خاصة في ظل التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية ماركو روبيو. وبيّنت أن الهيمنة الأميركية ليست مطلقة، وأن هناك أصواتًا تتحداها سياسيًا ودبلوماسيًا.
عندما تجتمع عشرات الدول العربية والإسلامية لإدانة مواقف الولايات المتحدة المنحازة، فإن هذا يُقوّض شرعية الرواية الأميركية التي تدعي حماية القانون الدولي وحقوق الإنسان.
أعطت القمة الذخيرة الأخلاقية والسياسية للنشطاء في الغرب، خاصة في الجامعات والإعلام، لمواصلة فضح التناقضات الأميركية. وقد تُسهم في زيادة الضغط على إدارة ترامب – أو أي إدارة قادمة – لإعادة النظر في الدعم المطلق لإسرائيل.
بنفس الوقت أعادت القمة التوازن للرواية العالمية في ظل سطوة الإعلام الغربي، جاءت لتقول هناك رواية أخرى، وهناك صوت مختلف يطالب بالعدالة. وهذا يُعيد التوازن في الساحة الدولية بين من يُبرر العدوان، ومن يرفضه مبدئيًا. وعززت توجه دول الجنوب العالمي نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب، يُنهي حقبة الهيمنة الغربية الأحادية. علاوة على تعزيز التعاون مع قوى كبرى مثل الصين، روسيا، وبلدان الجنوب في ملفات سياسية واقتصادية وإنسانية.
كما تكمن أهمية القمة انها عززت التضامن الإسلامي الدولي وأعادت تفعيل المظلّة الإسلامية التي كانت مغيّبة، وأظهرت أن الدول الإسلامية يمكن أن تتوحد في القضايا المفصلية، ما يعيد لها ثقلها الدولي.
من جهة أخرى أثبتت القمة أن الدول العربية والإسلامية قادرة على التحرك الجماعي، حتى في ظل الخلافات. ووجهت رسالة قوية إلى الولايات المتحدة بأن الدعم الأعمى لإسرائيل ستكون له تبعات دبلوماسية وأخلاقية. وأعطت العالم إشارة بأن المنطقة لم تعد ساحة صامتة، بل فاعلة في صياغة المشهد الدولي.