رؤساء يتغيرون .. والأزمة باقية
د. أحمد غندور القرعان
19-09-2025 04:45 PM
كلما تغير رئيس جامعة، تنشط التصريحات، وتكثر التهاني، وتُنسَج التوقعات عن بداية جديدة ومرحلة مختلفة. عبارات التفاؤل تُقال كأنها طقوس إجبارية. تمر الشهور، ويبدأ المشهد بالتبدل. حملات نقد، مديونية تتفاقم، صراعات داخلية، مطالبات بالإقالة، ثم إعفاء.. ويُفتح الباب لتعيين جديد. وتعود الحكاية.
ما يجري في جامعاتنا الرسمية لم يعد مسألة تغيير أشخاص أو تجديد دماء، بل أزمة ممتدة ومتجذرة. الأزمة ليست في اسم الرئيس الجديد، ولا في خبرته أو خلفيته. الأزمة في البنية، في منظومة التعليم العالي بكاملها، في الطريقة التي تُدار بها الجامعات، وفي الصلاحيات المحدودة، والضغوطات المتشابكة، والصمت المزمن عن تراكم الإخفاقات.
في الأيام الأخيرة، تم تعيين رئيسين جديدين لجامعتي اليرموك والطفيلة التقنية. التعيينات بحد ذاتها لاقت ارتياحاً، وربما جاءت لتبدد إشاعات ومخاوف. ومع الاحترام الكامل لهما، فالتحدي لا يكمن في شخص الرئيس، بل في البيئة التي سينطلق منها، وفي ما يُطلب منه دون أن يُمنح الأدوات لتحقيقه.
اليرموك، الجامعة التي لطالما شكلت أحد أعمدة التعليم في الأردن، أصبحت غارقة في أزمات مالية وتنظيمية. تتضارب التصريحات حول حجم مديونيتها. البعض يقول ٤٢ مليوناً، وآخرون يتحدثون عن ١٠٠ مليون. وبين الرقمين واقع صعب، لم يصنعه رئيس واحد، بل تراكم عبر سنوات من تراجع التمويل، وضعف التخطيط، وتغليب المجاملات على الكفاءات. الرئيس الجديد يرث هذا الإرث، لكنه لا يملك مفاتيح الحل وحده.
وفي الطفيلة، الجامعة التي وُلدت لتكون قاطرة تنمية في الجنوب، تعيش وضعاً لا يقل صعوبة. مديونية مرهقة، مكافآت غير مدفوعة، رواتب مرتبطة بالقروض البنكية، وعدد طلبة لا يكفي لتأمين التوازن المالي. الرئيس الجديد هناك أيضاً أمام واقع معقد، يحتاج أكثر من القرارات اليومية، يحتاج لإرادة سياسية ودعم حكومي صريح.
وسط كل هذا، يُطرح سؤال جوهري: ماذا عن مجالس الأمناء؟ من يُحاسبها؟ من يُسائلها عن دورها في هذه الأزمات؟ إذا كان الرؤساء يُعفَون لأن الأداء لم يكن بالمستوى المطلوب، فلماذا لا تُراجع تركيبة المجالس التي رافقت هذه الفترات؟ كثير من المجالس لم تسجل موقفاً، ولم تقدم خطة، ولم تمارس الرقابة كما ينبغي. بعضها كان حاضناً للفشل بصمته، أو شريكاً فيه بتوصياته. وإذا كان الرئيس يُحاسب، فالمجلس أولى بالمساءلة لأنه مسؤول عن التعيين، والمراقبة، والمتابعة.
ما نحتاجه اليوم ليس تغيير رئيس بآخر، بل تغيير طريقة التفكير، وتغيير المنظومة التي تنتج هذا التدوير المرهق. نحتاج إلى مؤتمر وطني عاجل، لا للمجاملات، بل لتشخيص الواقع ووضع خارطة طريق واضحة، تتناول إصلاح بنية التعليم العالي مالياً وإدارياً وأكاديمياً. نحتاج إلى لجنة وطنية دائمة تعالج ملف المديونية، وتتابع الإنفاق، وتراقب الخطط. نحتاج إلى دعم مالي مشروط بالإصلاح المؤسسي، لا إلى ضخ أموال ثم العودة للمربع الأول.
لا أحد ينجح في بيئة غير مُمَكَّنة. ولا رئيس جامعة، مهما بلغت كفاءته، يستطيع النجاح في ظل تهميش دوره، أو تحميله وزر سنوات من الإهمال. ولا يجوز أن نستمر في تحميل الأفراد ما لا يُحتمل، بينما البنية التنظيمية كما هي، والآليات نفسها، والضغوط ذاتها.
هل نملك الشجاعة لنقول إن الخلل بنيوي؟ هل نجرؤ على مراجعة دور مجلس التعليم العالي، وآلية تعيين الرؤساء، وتشكيل مجالس الأمناء، وتوزيع الصلاحيات، وتحديد المسؤوليات؟ هل نملك الشجاعة لأن نعلن أن التعيين وحده لا يكفي، وأن التغيير الحقيقي يبدأ حين نعيد النظر في كل ما سبق؟ أم أننا سنستمر نُغيِّر الرؤساء، ونُعيد إنتاج الفشل، وننتظر إعفاءً جديداً بعد أشهر، كأن شيئاً لم يكن؟
الجامعات لا تحتمل مزيداً من الوقت الضائع. كل تأخير يدفع ثمنه طالب، وأستاذ، ومجتمع بأكمله. ومن لا يتطور... ينقرض.