في المجالس، وفي ساحات العمل العام، نرى وجوهًا لا تكاد تنطق بحرف حين يكون المسؤول حاضرًا؛ يخشون أن يُقال عنهم معارضون، أو أن تُقطع عنهم منفعة يتوهمونها، فيكتفون بكلمة باهتة أو صمتٍ ثقيل، يظنونه حيلة ذكية تحفظ لهم نصيبًا من رضا المسؤول. هؤلاء هم "أهل الصمت المريب"، الذين لا يملكون شجاعة الكلمة، ولا صدق الموقف.
وفي المقابل، نجد من الناس من يعبّر عن رأيه أمام المسؤول بأدب ووقار، وعبر القنوات المشروعة، لا يطلب منفعة ولا يخشى خسارة، لأنه يرى أن الكلمة الصادقة أمانة، وأن النصيحة العلنية المباشرة أشرف من الهمس في الغرف الخلفية. هؤلاء هم الرجال والنساء الذين يَزِنون الكلام بميزان الحق، فلا يزيدون ولا ينقصون، ولا يجعلون من مناصب الناس معيارًا لقوة أصواتهم أو ضعفها.
لكن ما إن يغادر المسؤول مكانه، حتى تتحول الساحة إلى مهرجان من الأصوات الزائفة؛ فجأةً يصبح الصامتون أسودًا، والساكتون أبواقًا، يهاجمون من كانوا يحيطون به بالابتسامات، ويرحبون بالبديل وكأنه المخلّص الأعظم، ويكيلون له المدائح حتى يُخيَّل للسامع أن المنابر لم تُنشأ إلا لتبجيله، وأن التاريخ يبدأ بقدومه وينتهي برحيل من سبقه. يرفعون الشعارات البراقة بالمحاسبة والتحقيق، ويتصنّعون الغيرة على المصلحة العامة، والحقيقة أنهم لا يريدون إلا حصة جديدة من الغنيمة، ومنفعة طازجة يقتاتون منها، وكأنهم غربان تحوم حول كل وليمة.
وهنا يبرز السؤال الذي يفضح تناقضهم: لماذا لم تُسمع هذه الأصوات من قبل؟ ولماذا لم تُقل الكلمة في وقتها، وعلى مسامع صاحب الشأن، ما دامت قنوات المطالبة مفتوحة؟ الجواب واضح: لأنها أصوات الحُقّاد والحسدة، لا تعرف الصدق ولا تجيد إلا الطعن بعد انصراف صاحب الأمر، والتملّق للقادم الجديد رجاء عطاياه.
هذه الفئة بحاجة إلى تربية قاسية من وعيٍ ونقدٍ أخلاقي؛ أن يُقال لها: ليست البطولة في مهاجمة الغائب، ولا في ركوب موجة التغيير بعد أن تكون قد عبرت، ولا في التطبيل للمسؤول الجديد طمعًا في عطاياه، بل البطولة أن تقول كلمتك في حينها، وأن تصون نفسك من التلوّن، وأن تكون صادقًا مع نفسك قبل أن تكون صادقًا مع الناس.
أما من يلهث وراء المنافع، فيصمت حين يجب الكلام، ويتكلم حين ينعدم الخطر، فهو لا يخدع إلا نفسه، وسيبقى مجرد ظلّ باهت في سجل الحياة. والحق أن المجتمعات لا تنهض إلا بأهل الرأي الواضح، لا بالمتقلبين الذين يبيعون الكلمة في سوق المصالح.