facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




مفارقة الشكوى والمدح: حين تنقلب الموازين


د. بيتي السقرات
26-09-2025 10:09 AM

يُحكى أن مفتشًا حكوميًا زار قرية صغيرة بعد أن كثرت الشكاوى على موظف الدولة الوحيد فيها. وما إن دخلها حتى سمع من سائق العربة وأهل القرية شتائم متتابعة بحق الموظف، دون أن يقدّم أحدٌ سببًا مقنعًا لغضبهم. وحين جلس في مقهى القرية وسأل مختارها عن سرّ الأمر، جاءه الجواب المدهش: "اعتدنا أن يُنقَل الموظف النزيه إذا مدحناه، وأن يُثبَّت الفاسد إذا شكوناه، فتعلمنا أن نقلب القاعدة؛ نشتكي على الشريف ليبقى، ونمدح الفاسد لعلّه يُبعد عنا."

هذه الحكاية الرمزية تكشف مفارقة عميقة في العلاقة بين السلطة والمجتمع: حين يختل ميزان العدالة ويضطرب منطق الحوافز والعقوبات، يضطر الناس إلى ممارسة العكس، فيتحول المدح إلى عقوبة والشكوى إلى مكافأة. إنها صورة مكثّفة لانقلاب القيم في البنى الإدارية والسياسية، حين يصبح الصواب عبئًا والفساد محميًّا.

التاريخ يخبرنا أن البدايات غالبًا ما تأتي مفعمة بالعدل والجدّية، لكن الزمن كفيل بأن يُدخل الشللية والمحاباة، حتى يتحوّل البناء إلى كيان هشّ، كضرسٍ منزوع العصب؛ قد يبقى في مكانه فترة، لكنه لا محالة آيلٌ للسقوط. البنى التي تفتقر إلى المهنية والشفافية مصيرها التآكل ولو طال عمرها.

إن الانتماء الحقيقي لا يُفرض بقرارات ولا شعارات، بل يسكن في القلب ويُترجم بالجهد والإخلاص. والنماء لا يتحقق إلا حين تتوافر بيئة عادلة تكافئ النزاهة وتعاقب الفساد، وتضمن أن يكون الموظف الشريف مصانًا بعمله لا مهددًا برحيله، وأن تُواجَه الممارسات الفاسدة لا بالتغاضي عنها بل بالمحاسبة الصارمة التي تُعيد المعايير إلى مواضعها الصحيحة. عندها فقط يشعر المجتمع أن صوته مسموع وأن شكاواه تُترجم إلى إصلاح حقيقي لا إلى إطالة عمر الخلل.

وقد يَخفي المرء ضعفه عن الناس حينًا، غير أن اختياره لمَن يُحيط نفسه بهم كفيل بأن يكشفه؛ فمن يحيط نفسه بالانتهازيين والضعفاء لا بد أن يسقط معهم، ومن يُحسن اختيار صحبته يملك سرّ النجاة.

إن الإصلاح لا يتحقق بالشعارات ولا بالقرارات المؤقتة، بل ببناء مؤسسات عادلة تكرّم النزيه على نزاهته، وتُحاسب الفاسد على فساده، فلا يضطر المجتمع إلى قلب الموازين لحماية الخير من الزوال. فحين يُعاد الاعتبار للمعنى، يُستعاد الأمل، وتستقيم المسيرة.

*أ.د.بيتي السقرات/ الجامعة الأردنية.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :