في الأردن.. المناصب العليا ليست مجرد مواقع عمل.. بل هي كراسي سحرية.. لا يعرفها إلا السحرة.. فما أن يغادر مسؤول مقعده.. حتى يجد مقعدا آخر بانتظاره.. وكأن هذه الكراسي مزودة بخاصية التتبع GPS.. تلحق صاحبها أينما ذهب..
يستقيل وزير؟!.. لا بأس.. خلال أيام يصبح سفيرا.. يخرج سفير من موقعه؟!.. لا تقلقوا.. سيعود رئيس مجلس إدارة.. أو مندوبا في منظمة دولية.. حتى بات الأمر يشبه لعبة "غيّر الكراسي" التي كنا نلعبها ونحن صغارا.. مع فرق بسيط.. أننا كنا نخرج واحدا تلو الآخر.. أما في نسختنا الأردنية للمسؤولين.. فالمقاعد تكبر بعدد اللاعبين.. ولا يخرج أحد أبدا..
المواطن المسكين.. صار يعرف الحلقات قبل عرضها.. فبمجرد أن يسمع خبرا عن تغيير حكومي.. أو حركة تعيينات.. يبتسم بمرارة ويقول أكيد راح يطلع فلان.. ويحطوا فلان.. بل إننا بتنا نندهش.. إذا جلس أحد أعضاء (نادي المسؤولين) في بيته أسبوعا كاملا.. دون أن نقرأ اسمه في الجريدة الرسمية.. نكاد نظن أنه مريض.. أو مسافر.. او قد يكون مش عاجبه الكرسي الجديد.. لأن بقاءه بلا منصب صار الاستثناء.. وليس القاعدة..
وهنا السؤال الذي يلسع العقل.. هل الأردن باثني عشر محافظة.. وبملايين الشباب المتعلمين.. والطاقات الجديدة.. لم ينجب إلا هؤلاء؟!.. هل جفّت الأرحام.. وانكسر القالب الذي ينتج المسؤولين؟!.. أم أن في البلد قائمة.. لا يحق لأحد اختراقها.. أشبه بقائمة طعام في المطاعم الفخمة.. ثابتة لا تتغير.. فقط يبدّلون الأطباق بين الطاولة والطاولة.. وحتى حين أذكر الواسطة في العنوان.. فهي مجرد سخرية.. على لسان الكثيرين الذين يبحثون عنها.. سواء كانت محمودة لإثبات حق مشروع.. أو سيئة لتسهيل مصالح شخصية.. فالمفاجأة واحدة دائما.. مَن طرق بابه اليوم.. قد يغير الديكور.. ويصبح مسؤولاً في مكان آخر.. وهات قطبها..
الغريب.. أن هذه الظاهرة لا نجد مثلها.. لا في الدول المتقدمة.. ولا المتخلفة.. وحدنا نحن اخترعنا هذا الفن المحلي الخالص.. فن تدوير الكراسي دون توقف.. حتى صار المواطن.. لا يرى تعيينات جديدة.. بل إعادة تدوير.. أشبه بمنتجات بلاستيكية.. يعاد تشكيلها أكثر من مرة.. لكنها تظل هي ذاتها..
شو الكم بطول السولافة.. نحن أمام احتكار غريب.. احتكار للوجوه والأسماء.. احتكار للفرص والخيارات.. احتكار يجعل الناس يوقنون.. أن المناصب ليست تكليفاً لخدمة الوطن.. بل امتيازاً مدى الحياة.. كل ما يتغير هو اللوحة المعلقة على الباب.. أما صاحب الكرسي.. فهو ذاته.. باقٍ ما بقيت المناصب تدور.. وسلامتكم..