facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الحاكم العسكري من الباب إلى الشباك


د. محمود الشغنوبي
30-09-2025 11:53 AM

خرج الحاكم العسكري البريطاني من فلسطين عام 1948 وكأنه يؤدي مسرحية رديئة الإخراج. رفع العلم البريطاني عن القدس، ثم أنزله ببطء، وأدار ظهره ليغادر من الباب الكبير. بدا المشهد يومها كأنه نهاية مرحلة وبداية استقلال، بينما الحقيقة أنه كان انسحابًا مخططًا، انسحابًا ترك وراءه نصف الأرض محتلة، والنصف الآخر محاصرًا بالوعود. كان خروجًا من الباب لكنه فتح في الجدار نوافذ كثيرة ليستقبل منها احتلال جديد بوجه آخر.

لم يخرج البريطانيون عبثًا. لقد تركوا وراءهم بذور كيان مدجج بالسلاح والدعم، ثم وقفوا يتفرجون من بعيد على حريق أشعلوه بأيديهم. قسّموا الأرض، قسموا النفوس، ثم غادروا وكأنهم ملائكة الرحمة. لكن الباب الذي خرجوا منه ظل مفتوحًا على مصراعيه، لا للحرية، بل لاحتلال آخر أكثر دهاءً، يتقن لغة الشعارات اللامعة، ويُجيد لعبة الإعلام.

واليوم، بعد أكثر من سبعين عامًا، يعود الحاكم العسكري ذاته ولكن متنكرًا. لا يرتدي بزته البريطانية، بل يطل بوجه أمريكي، وبيديه خريطة مشوهة تحمل توقيع ترامب. لم يعد بحاجة إلى أن يدخل من الباب، فالأبواب باتت معروفة ومكشوفة، بل اختار الشباك، طريقًا خلفيًا، ليعيد الاحتلال إلى كامل الأرض الفلسطينية تحت لافتة جديدة: "صفقة القرن". إنها إعادة إنتاج للانتداب بوسائل أكثر صفاقة، فبينما سلّم البريطانيون نصف فلسطين، جاء الأمريكي ليمنحها كلها للاحتلال، بلا خجل ولا أقنعة ولا حتى مساحيق دبلوماسية.

السخرية أن الخطاب الاستعماري لم يتغير. البريطانيون قالوا يومًا إنهم جاؤوا "لتهيئة الشعب الفلسطيني لتقرير مصيره"، ثم تركوه مشردًا في المنافي. وترامب قال إنه جاء "ليصنع السلام"، فإذا به يوزع القدس لإسرائيل، ويمنح الضفة للمستوطنين، ويحاصر غزة تحت عنوان "الأمن". هي نفس النغمة القديمة: كلام عن العدالة، وقرارات عن الظلم.

هذه المبادرة ليست خطة سياسية بل مسرحية عبثية. بطلها الأمريكي يظن أنه يستطيع إنهاء التاريخ بتوقيع، وكومبارسه الإسرائيلي يصفق فرحًا وهو يقطف الثمار. أما الفلسطيني، فقد خُصص له دور المتفرج الصامت، الذي عليه أن يقبل القسمة وهو يبتسم. وكأنهم يعرضون عليه "دولة" عبارة عن جزر متناثرة محاطة بالأسلاك والجدران، ثم يصفونها بأنها "حل نهائي".

لكن ما يغيب عن عقلية الحاكم العسكري الجديد أن الفلسطيني لم يعد ذاك الضعيف الذي ينتظر رحمة الانتداب. الفلسطيني اليوم يكتب تاريخه بالدم والصمود، ويحوّل كل خطة تصفية إلى وقود لمزيد من المقاومة. الباب الذي خرج منه البريطانيون لم يُغلق أبدًا، بل ظل شاهداً على أن الاستعمار يغير شكله فقط. واليوم، الشباك الذي دخل منه ترامب لن يبقى مفتوحًا طويلاً، فالتاريخ لا يرحم، والذاكرة لا تموت.

لقد ظن البريطانيون أن خروجهم سيُنهي فلسطين، فإذا بالنكبة تولد معها روح المقاومة. وظن الأمريكيون أن خطتهم ستدفن القضية، فإذا بها تعيد إحياءها من جديد في ضمير الأمة. كل محاولة لإغلاق الملف الفلسطيني من الباب أو من الشباك لم تفعل سوى أن أكدت أن هذا الشعب عصيّ على التصفية، وأن الحق لا يذوب بالخرائط ولا يُمحى بالصفقات.

إن ما فعله ترامب ليس سوى استكمال لما بدأه بلفور قبل مئة عام. الفرق أن البريطاني يومها كتب وعدًا من أربعين كلمة سلّم نصف فلسطين، بينما جاء الأمريكي بعد قرن كامل ليكتب خطة من أربعين صفحة يسلم بها فلسطين كلها. فالبريطاني خرج من الباب ملوحًا براية الانسحاب، والأمريكي تسلل من الشباك ملوحًا براية الوصاية. وكأن التاريخ يعيد نفسه لكن بلغة أكثر وقاحة.

أمريكا لم تكن يومًا وسيطًا نزيهًا، بل هي الحاكم العسكري الجديد الذي ارتدى بدلة رسمية مكان البزة العسكرية، وجلس في البيت الأبيض بدل مقر القيادة البريطانية في القدس، لكنه يؤدي الدور ذاته: يقرر من له حق الحياة، ومن عليه أن يُمحى من الخريطة. هذه ليست صفقة، إنها وثيقة استسلام مكتوبة بيد واشنطن، وممهورة بختم تل أبيب.

لكن الأقدار لا تسير وفق مقاسات البيت الأبيض. فكما فشل الانتداب البريطاني في إلغاء فلسطين، سيفشل الانتداب الأمريكي في فرض وصايته. فالشعوب التي صنعت من النكبة بداية، ومن الهزيمة دافعًا، ومن الحصار صمودًا، لن تسمح بأن يُغلق بابها أو يُكسر شباكها.

فلسطين ستبقى الباب الذي لا يُغلق، والشباك الذي لا يُسدّ، مهما تعددت أسماء الحاكم العسكري وتغيّرت وجوهه.

باختصار..
"خرج البريطاني من الباب تاركًا نصف فلسطين، ودخل الأمريكي من الشباك ليبتلعها كلها."

وسلامتكم.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :