كنتُ ضَجِرًا ومشوَّش الذهن حين أفقتُ مُفزَعًا من النوم في حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل ، في ليلةٍ صيفيةٍ خانقة بحرارتها، فتحتُ عيني متثاقِلًا ، ثم مددتُ رأسي نحو النافذة أبحث عن نَفَسٍ من هواءٍ يُطفئ ضيقي.
لكن فجأة ، أحسستُ أن الوعي يتسرَّب مني شيئًا فشيئًا… وإذا بي أجد نفسي داخل مركبةٍ عجيبة! مركبة تسير بسرعةٍ مذهلة ، بلا صوت ، بلا سائق ، أمامي شاشة صغيرة كُتب عليها:
"اذكر وجهتك… وسنوصلك فورًا."
وقتها لا أدري إن كنتُ أحلم أم فقدتُ الحياة وأصبحتُ أعيش في عالمٍ آخر، أم أن هذه وسيلةٌ من عالم الأرواح ، أردت أن أشعل غليوني فمددتُ يدي إلى مكانه المعتاد ، فلم أجده ، والأغرب أنني لم أرَ مركباتٍ أخرى ، ولا أناسًا ، ولا حتى أشيائي الخاصة ، عندها أدركت أنني قد غادرتُ عالم الأحياء إلى عالمٍ آخر.
تذكّرتُ صديقي التي كنت ألجأ إليها كلما تشوّش عليَّ الأمر… لكني نسيت أين أجده ، وبينما أنا في حيرتي خطر لي أن أستعين بهذه المركبة التي أنا فيها فقلتُ:
“أوصليني إلى حيث يقطن فلان…” لكني فجأة نسيت اسمه.
فتداركت الأمر وقلت:
“أوصليني إلى حيث يوجد أناس مثلي.”
أجابتني المركبة بصوتٍ آلي:
“اختيار خاطئ. قل: أوصليني إلى المحطة رقم واحد.”
وقبل أن أستوعب ما يحدث ، وفي لمح البصر، كنتُ قد وصلتُ إلى المحطة رقم واحد…
حين توقفت المركبة فجأة ، انفتح الباب تلقائيًا ، وانسكب أمامي فضاءٌ لا يشبه أي مكانٍ رأيته من قبل ، لم تكن هناك شمس ولا قمر، ولا ليل ولا نهار؛ إنما نورٌ خافتٌ يملأ الأفق دون مصدرٍ محدد، كأنه نورٌ يولد من داخلي أنا.
خطوتُ إلى الخارج بخطواتٍ مترددة ، فاستقبلني صمتٌ مطلق، صمتٌ لا يُشبه فراغ الدنيا ، بل صمتٌ يشبه امتلاءً خفيًا. أحسستُ أنني لم أعد أرى بعيني فحسب ، بل بروحي أيضًا.
رأيت أشخاصًا يتحركون في البعيد… لكنهم لم يكونوا أشخاصًا كما أعرفهم ؛ كانت وجوههم مزيجًا من وجوهٍ مألوفة وغريبة ، كأنها صور مطبوعة في ذاكرةٍ ضائعة. كلما اقتربتُ منهم ، أحسستُ أنهم يقتربون من داخلي لا من خارجي ، عندها أدركت أنني لا أرى "آخرين" ، بل أرى احتمالاتي أنا : وجوهًا كنتُ سأصيرها لو اخترت طرقًا أخرى في حياتي.
تقدمتُ أكثر حتى صادفتُ لوحة ضخمة عليها كلمات لم أقرأها بعيني ، بل فهمتها مباشرة في داخلي:
"هذه هي المحطة الأولى : عالم ما لم تعشه ، هنا سترى كل الطرق التي ضيّعتها ، وكل الأبواب التي لم تفتحها."
ارتجف قلبي ، وأحسست أنني أقف أمام مرآة كونية تُحاسب بلا قاضٍ ، وتكشف بلا سؤال.
حينها سمعت صوت المركبة خلفي يهمس:
"كل مسافرٍ يمر بمحطته الأولى قبل أن يُقرر… هل يريد العودة إلى العالم ، أم الاستمرار إلى المحطة التالية."
وقفتُ حائرًا : هل أعود إلى عالمي الضيق المليء بالتشويش، أم أتابع هذه الرحلة إلى ما وراء المحطة الأولى ، حيث لا عودة بعدها؟
جلستُ في المركبة من جديد ، وأنا مثقلٌ بما رأيتُ في المحطة الأولى : وجوه احتمالاتي، وطرق لم أعشها ، لم تمهلني المركبة كثيرًا ، إذ انطلقت بي بسرعةٍ لا تُحتمل ولا تُسمع ، ثم توقفت فجأة ، ارتجّ كياني كله ، وفتحتُ عيني على لوحةٍ أخرى مكتوب عليها:
"المحطة الثانية: عالم ما فقدته."
خرجتُ مترددًا ، فإذا بي أجد نفسي في ساحةٍ فسيحة ، تتناثر فيها أشياء صغيرة مبعثرة : ساعةٌ قديمة ، كتابٌ ممزق ، رسالة بخطٍّ مألوف، وصورةٌ باهتة لطفولتي ، كل غرضٍ كنتُ أراه ، كان يفتح داخلي فجوةً عميقة ، كأنني ألمس قطعة من نفسي أضعتها في زمنٍ بعيد.
وفجأة ، لمحتُ أشخاصًا أعرفهم جيدًا : أبي الراحل يجلس على كرسيه الخشبي ، أمي وهي تُنادي باسمي كما كانت تفعل في صغري ، أصدقاء رحلوا ، وأحلام قديمة تركتها خلفي ، لم يكونوا أشخاصًا من لحمٍ ودم ، بل كانوا حضورًا كثيفًا ، طيفًا يتغلغل في أعماقي.
شعرت أن كل ما فقدته لم يمت ، بل انتقل إلى هذا المكان ، محفوظًا في ذاكرة الوجود ، ينتظرني كي أعترف بفقده وأتصالح معه.حينها أدركت أن المحطة الثانية ليست عقابًا ولا عزاءً ، بل مرآة أخرى ، تقول لي:
"لا أحد يخسر حقًا… بل كل ما نفقده يتحوّل إلى جزءٍ آخر من ذواتنا."
عدتُ إلى المركبة بخطواتٍ بطيئة، وعيناي مبللتان بدموعٍ لم أذرفها منذ زمن ،جلستُ، وهمستُ للمركبة:
"إلى المحطة الثالثة."
انطلقت المركبة كأنها تشقُّ الفراغ نفسه ، ثم توقفت عند فضاءٍ مُهيب لم أعرف له حدودًا ، كانت المحطة الثالثة مختلفة تمامًا ، لم يكن هناك أشياء ضائعة أو وجوه محتملة ، بل كان هناك صفاء مطلق ، لا صور، لا أشخاص ، لا أشياء ، فقط سكون كوني عظيم ، وكأنني أقف أمام بداية الخليقة أو نهايتها.
ظهرت أمامي عبارة واحدة ، مضاءة بنور داخلي لم أعرف مصدره:
"المحطة الثالثة: أنت."
تساءلتُ بدهشة: "أنا؟"
وفجأة ، شعرت أن كل ما حولي يتلاشى… المركبة ، الأرض ، السماء ، لم يبقَ إلا وعيي عاريًا ، يواجه نفسه بلا قناع ، بلا ماضٍ، بلا مستقبل.
كان شعورًا مرعبًا ومحررًا في الوقت ذاته ؛ أنني لست سوى فكرة عابرة في عقل الكون ، لكنني أيضًا أصلُ هذا الكون إن تجرّدت من كل شيء.حينها سمعتُ الصوت ذاته الذي رافقني منذ البداية ، يقول:
"من يعبر المحطة الثالثة، لا يعود كما كان . هنا ، إما أن تختار أن تذوب في الكل ، أو أن تعود إلى حياتك ، محمّلًا بالمعرفة التي لم يكن قلبك قادرًا على حملها من قبل."
أغمضتُ عيني… وأدركت أن القرار الأخير ليس للمركبة، بل لي أنا .
حمى الله الاردن وسدد على طريق الخير خطاه