facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




رحلة المحطات الثلاثة


د. بركات النمر العبادي
04-10-2025 11:40 AM

كنتُ ضَجِرًا ومشوَّش الذهن حين أفقتُ مُفزَعًا من النوم في حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل ، في ليلةٍ صيفيةٍ خانقة بحرارتها، فتحتُ عيني متثاقِلًا ، ثم مددتُ رأسي نحو النافذة أبحث عن نَفَسٍ من هواءٍ يُطفئ ضيقي.

لكن فجأة ، أحسستُ أن الوعي يتسرَّب مني شيئًا فشيئًا… وإذا بي أجد نفسي داخل مركبةٍ عجيبة! مركبة تسير بسرعةٍ مذهلة ، بلا صوت ، بلا سائق ، أمامي شاشة صغيرة كُتب عليها:

"اذكر وجهتك… وسنوصلك فورًا."

وقتها لا أدري إن كنتُ أحلم أم فقدتُ الحياة وأصبحتُ أعيش في عالمٍ آخر، أم أن هذه وسيلةٌ من عالم الأرواح ، أردت أن أشعل غليوني فمددتُ يدي إلى مكانه المعتاد ، فلم أجده ، والأغرب أنني لم أرَ مركباتٍ أخرى ، ولا أناسًا ، ولا حتى أشيائي الخاصة ، عندها أدركت أنني قد غادرتُ عالم الأحياء إلى عالمٍ آخر.

تذكّرتُ صديقي التي كنت ألجأ إليها كلما تشوّش عليَّ الأمر… لكني نسيت أين أجده ، وبينما أنا في حيرتي خطر لي أن أستعين بهذه المركبة التي أنا فيها فقلتُ:

“أوصليني إلى حيث يقطن فلان…” لكني فجأة نسيت اسمه.

فتداركت الأمر وقلت:

“أوصليني إلى حيث يوجد أناس مثلي.”
أجابتني المركبة بصوتٍ آلي:
“اختيار خاطئ. قل: أوصليني إلى المحطة رقم واحد.”

وقبل أن أستوعب ما يحدث ، وفي لمح البصر، كنتُ قد وصلتُ إلى المحطة رقم واحد…

حين توقفت المركبة فجأة ، انفتح الباب تلقائيًا ، وانسكب أمامي فضاءٌ لا يشبه أي مكانٍ رأيته من قبل ، لم تكن هناك شمس ولا قمر، ولا ليل ولا نهار؛ إنما نورٌ خافتٌ يملأ الأفق دون مصدرٍ محدد، كأنه نورٌ يولد من داخلي أنا.

خطوتُ إلى الخارج بخطواتٍ مترددة ، فاستقبلني صمتٌ مطلق، صمتٌ لا يُشبه فراغ الدنيا ، بل صمتٌ يشبه امتلاءً خفيًا. أحسستُ أنني لم أعد أرى بعيني فحسب ، بل بروحي أيضًا.

رأيت أشخاصًا يتحركون في البعيد… لكنهم لم يكونوا أشخاصًا كما أعرفهم ؛ كانت وجوههم مزيجًا من وجوهٍ مألوفة وغريبة ، كأنها صور مطبوعة في ذاكرةٍ ضائعة. كلما اقتربتُ منهم ، أحسستُ أنهم يقتربون من داخلي لا من خارجي ، عندها أدركت أنني لا أرى "آخرين" ، بل أرى احتمالاتي أنا : وجوهًا كنتُ سأصيرها لو اخترت طرقًا أخرى في حياتي.

تقدمتُ أكثر حتى صادفتُ لوحة ضخمة عليها كلمات لم أقرأها بعيني ، بل فهمتها مباشرة في داخلي:

"هذه هي المحطة الأولى : عالم ما لم تعشه ، هنا سترى كل الطرق التي ضيّعتها ، وكل الأبواب التي لم تفتحها."

ارتجف قلبي ، وأحسست أنني أقف أمام مرآة كونية تُحاسب بلا قاضٍ ، وتكشف بلا سؤال.

حينها سمعت صوت المركبة خلفي يهمس:

"كل مسافرٍ يمر بمحطته الأولى قبل أن يُقرر… هل يريد العودة إلى العالم ، أم الاستمرار إلى المحطة التالية."

وقفتُ حائرًا : هل أعود إلى عالمي الضيق المليء بالتشويش، أم أتابع هذه الرحلة إلى ما وراء المحطة الأولى ، حيث لا عودة بعدها؟

جلستُ في المركبة من جديد ، وأنا مثقلٌ بما رأيتُ في المحطة الأولى : وجوه احتمالاتي، وطرق لم أعشها ، لم تمهلني المركبة كثيرًا ، إذ انطلقت بي بسرعةٍ لا تُحتمل ولا تُسمع ، ثم توقفت فجأة ، ارتجّ كياني كله ، وفتحتُ عيني على لوحةٍ أخرى مكتوب عليها:
"المحطة الثانية: عالم ما فقدته."

خرجتُ مترددًا ، فإذا بي أجد نفسي في ساحةٍ فسيحة ، تتناثر فيها أشياء صغيرة مبعثرة : ساعةٌ قديمة ، كتابٌ ممزق ، رسالة بخطٍّ مألوف، وصورةٌ باهتة لطفولتي ، كل غرضٍ كنتُ أراه ، كان يفتح داخلي فجوةً عميقة ، كأنني ألمس قطعة من نفسي أضعتها في زمنٍ بعيد.

وفجأة ، لمحتُ أشخاصًا أعرفهم جيدًا : أبي الراحل يجلس على كرسيه الخشبي ، أمي وهي تُنادي باسمي كما كانت تفعل في صغري ، أصدقاء رحلوا ، وأحلام قديمة تركتها خلفي ، لم يكونوا أشخاصًا من لحمٍ ودم ، بل كانوا حضورًا كثيفًا ، طيفًا يتغلغل في أعماقي.

شعرت أن كل ما فقدته لم يمت ، بل انتقل إلى هذا المكان ، محفوظًا في ذاكرة الوجود ، ينتظرني كي أعترف بفقده وأتصالح معه.حينها أدركت أن المحطة الثانية ليست عقابًا ولا عزاءً ، بل مرآة أخرى ، تقول لي:

"لا أحد يخسر حقًا… بل كل ما نفقده يتحوّل إلى جزءٍ آخر من ذواتنا."

عدتُ إلى المركبة بخطواتٍ بطيئة، وعيناي مبللتان بدموعٍ لم أذرفها منذ زمن ،جلستُ، وهمستُ للمركبة:

"إلى المحطة الثالثة."

انطلقت المركبة كأنها تشقُّ الفراغ نفسه ، ثم توقفت عند فضاءٍ مُهيب لم أعرف له حدودًا ، كانت المحطة الثالثة مختلفة تمامًا ، لم يكن هناك أشياء ضائعة أو وجوه محتملة ، بل كان هناك صفاء مطلق ، لا صور، لا أشخاص ، لا أشياء ، فقط سكون كوني عظيم ، وكأنني أقف أمام بداية الخليقة أو نهايتها.

ظهرت أمامي عبارة واحدة ، مضاءة بنور داخلي لم أعرف مصدره:

"المحطة الثالثة: أنت."

تساءلتُ بدهشة: "أنا؟"

وفجأة ، شعرت أن كل ما حولي يتلاشى… المركبة ، الأرض ، السماء ، لم يبقَ إلا وعيي عاريًا ، يواجه نفسه بلا قناع ، بلا ماضٍ، بلا مستقبل.

كان شعورًا مرعبًا ومحررًا في الوقت ذاته ؛ أنني لست سوى فكرة عابرة في عقل الكون ، لكنني أيضًا أصلُ هذا الكون إن تجرّدت من كل شيء.حينها سمعتُ الصوت ذاته الذي رافقني منذ البداية ، يقول:

"من يعبر المحطة الثالثة، لا يعود كما كان . هنا ، إما أن تختار أن تذوب في الكل ، أو أن تعود إلى حياتك ، محمّلًا بالمعرفة التي لم يكن قلبك قادرًا على حملها من قبل."

أغمضتُ عيني… وأدركت أن القرار الأخير ليس للمركبة، بل لي أنا .

حمى الله الاردن وسدد على طريق الخير خطاه





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :