مستعمرات النمل كنموذج للحلول الذكية .. الصندوق الأسود (26)
د. كفاية عبدالله
04-10-2025 04:14 PM
في عالمٍ يموج بالأنظمة المعقدة والهياكل الهرمية المتكلسة، تطل علينا مخلوقات صغيرة لتمنحنا دروسًا بليغة في فنّ الإدارة والتنظيم الذاتي.
النمل... هذه الأمة الصامتة التي تعمل بانتظام مدهش، تعتلي سُلّم الأستاذية لإدارة أكثر الأنظمة تعقيدًا دون ضجيج أو فوقية، دون سيلٍ من المذكرات أو الاجتماعات الطارئة أو الصورية، بل بانسجامٍ فطريٍ وروحٍ جماعيةٍ تعرف طريقها بالفطرة، وتثير الإعجاب وتستدعي التأمل.
يفتح لنا النمل نافذة على ماهية الإدارة في صورتها الأنقى: مجتمعٌ يعمل بتناغمٍ وبانسجامٍ عجيب، بحسٍّ من اليقظة لحراسة قيمه وإرثه، كلٌّ منهم جُندٌ على خطوط الدفاع، يأخذ موقعه ويعرف دوره بدقة، كلٌّ على ثغرته، يتحرك وفق إشاراتٍ بسيطةٍ وتفاهمٍ جمعيٍّ صامت، لتتحول الحركات الصغيرة إلى إنجازات مذهلة.
ولعل أبلغ صورةٍ لهذا الحس الجمعي ما ورد في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾.
هنا يتجلّى الإيمان بالقضية والانتماء للجماعة، واليقظةُ في أداء الواجب، والاستعدادُ للتضحية في سبيل الحفاظ على الكيان. أمةٌ تدرك الخطر قبل وقوعه، وتتحرك استباقيًا لحماية وجودها، دون أن تنتظر قرارًا من مجلسٍ أو تعليماتٍ من سلطة. تلك هي قمة النضج المؤسسي: أن تمتلك المؤسسة وعيًا جمعيًا ينبع من الإيمان برسالتها، لا من الخوف من سلطتها.
النمل يعمل بدقةٍ لا يعرف التردد ولا التداخل، ولا يعرف الفوضى طريقًا إلى مستعمرته، ولا ينتظر تدفّق التعليمات من فوقه أو من قيادة مركزية. تتحول القواعد البسيطة إلى سلوكٍ جماعيٍّ تُدهشك روعته. إنها البساطة التي تذهلك بعمق نتائجها، والوضوح الذي يُغنيك عن التعقيد، والروح الجماعية التي تزرع في كل قلبٍ يقظةً هي سرّ العبقرية في التصميم؛ أن تُنتج من القاعدة البسيطة منظومةً معقدةً بقدر ما هي فعّالة.
إنه التنظيم الذاتي في أبهى صوره، حيث يتحول الحسّ الجمعي إلى نظامٍ أخلاقيٍّ غير مكتوب، أشبه بالرقابة الوجدانية التي تُغني عن الرقابة الرسمية. لا تكرار في الجهد، ولا ازدواج في المهام، ولا هدر في الإمكانات. الكل يعرف ما له وما عليه، دون أن يُثقل كاهله بالبيروقراطية أو يُعلّق مصيره بسلسلةٍ من التواقيع والموافقات. هناك، في ممرات النمل، لا ملفات مؤجّلة، ولا أعذار جاهزة، ولا أحد ينتظر الآخر ليبدأ. الجميع يبدأ، الجميع يسهم، الجميع مسؤولٌ في انسجامٍ لا تعرفه كثير من المؤسسات التي أرهقها التكرار، وأبطأها الانتظار، وأثقلها الخوف من الخطأ أكثر من الرغبة في الإنجاز وتحقيق الغايات.
ومع كل هذا الانضباط، لا تغيب المرونة عن تلك المستعمرات؛ فحين تتغير البيئة أو تطرأ أزمة، يعيد النمل تنظيم نفسه بنفسه، يُبدّل مساراته، ويجد بدائل جديدة بمبادرةٍ ذاتيةٍ دون الحاجة للانتظار لصدور أوامر عليا. كم نحتاج إلى أن نتعلم من هذه الرشاقة في الحركة، ومن خفة التنظيم ومرونته. في عالمٍ يزدحم بالمتضادات؛ فالقدرة على التكيف ليست ترفًا تنظيميًا، بل ضرورةً للبقاء.
يظل النمل رمزًا للتوازن: يجمع بين الانضباط والحرية، بين العمل الفردي والمصلحة الجماعية، بين بساطة القاعدة وعمق الأثر. هو نموذجٌ للابتكار الطبيعي، حيث يُولد كل حلٍّ من حاجةٍ حقيقية، وكل فكرةٍ من تفاعلٍ جماعي، لا من أوامر فوقية.
وإن النظام الذي لا يتعلم، يتجمد ويهرم ويرحل؛ والمؤسسة التي لا تُجيد الإصغاء للتغذية الراجعة من الواقع، تفقد بوصلتها سريعًا. إن أعظم ما في النمل أنه يتعلم من التجربة، يُعيد توجيه سلوكه بذكاء، ويحوّل الملاحظة إلى قرار. كم نحتاج إلى هذه الفطرة في مؤسساتنا؛ أن نقرأ الواقع لا التقارير، وأن نرى المشكلات لا نُخفيها تحت عناوين منمّقة، وأن نتعلم من الإخفاق كما من النجاح.
في مستعمرات النمل لا مكان للتقاعس، ولا عمر يشيخ ما دامت القلوب تنبض بالعطاء والنمو، وما دامت الأرواح تتطلع إلى التقدّم لا إلى البقاء في مكانٍ آمنٍ مألوف. إنها منظومة تعرف أن البقاء للأكثر تعاونًا والتزامًا، لا للأكثر انتفاخًا للبطون وفراغًا للعقول.
ولا يكتمل هذا النظام الذكي إلا بالاستدامة. فالنمل لا يُبدد جهده، ولا يستنزف بيئته، بل يُدير موارده بحكمةٍ تثير الإعجاب. يجمع ما يحتاجه بقدر، ويُوازن بين الإنتاج والاستهلاك، بين التوسع والحفاظ على التوازن البيئي. هذا المبدأ هو جوهر أي إدارة رشيدة: إدارةٌ تعرف كيف تستخدم مواردها بكفاءةٍ دون إسرافٍ ولا ترفٍ تنظيمي. المؤسسات التي تُهدر الوقت في الاجتماعات، والمال في تكرار المشاريع، والطاقة في تضخيم الإجراءات، تحتاج أن تتعلم من هذا النموذج الطبيعي: أن البقاء لا يكون بالأكثر إنفاقًا، بل بالأكثر اتزانًا.
وإذا كانت مستعمرات النمل قائمةً على التعاون الصامت، فالمؤسسات الحديثة تحتاج إلى التعاون الواعي؛ أن تعمل كوحدةٍ واحدة، لا كمكاتب متجاورة. فحين يتحول الموظفون إلى خليةٍ واحدةٍ منسجمة، كلٌّ منهم يؤدي دوره بدقة، تنشأ إدارةٌ فاعلةٌ لا تُرهقها الرقابة ولا تُضعفها المركزية، إدارةٌ مرنة تنمو من الداخل كما تنمو خلايا النمل في توازنٍ دائمٍ بين النظام والحياة.
وإذا كان النمل يتمتع بالذكاء الفطري فالمؤسسات الحديثة تحتاج إلى ذكاءٍ وطنيٍ جمعيٍّ يُعيد الإنسان إلى موقعه الطبيعي في قلب العملية الإدارية؛ ذكاءٍ لا يستعين بالآلة بل يوظفها كأداة، لا يحلّ محلّ العقول بل يُحرّضها على التفكير. فالتكنولوجيا مهما بلغت دقتها تظلّ وسيلة، أما البصيرة فهي جوهر القيادة الحقيقية. وكما لم يحتج النمل إلى ذكاءٍ صناعيٍ ليبني مدنه، فإننا لا نحتاج إلى خوارزميات تُقرّر عنا وتفكر بدلا منا ، بل إلى وعيٍ مؤسسيٍ يؤمن برسالته ويعمل من أجلها.
في مستعمرات النمل لا أحد ينتظر أحدًا ليبدأ، ولا أحد يعرقل غيره خوفًا من أن يضيء أكثر. هناك لا يُقاس الجهد بالظهور، بل بالأثر الممتد. لا أحد يبحث عن الفضل، بل عن النتيجة والحل. وهكذا ينبغي أن تكون مؤسساتنا: منظوماتٍ منسجمة، تعرف أن الذكاء المؤسسي لا يصنعه الأفراد المتفردون، بل الجماعات المتعاونة التي توحّد الجهود من أجل غايةٍ مشتركة.
فهل آن لنا — نحن البشر — أن نتعلم من النمل؟
أن نعيد تعريف الإدارة لا كسلطةٍ لكسب المغانم، بل كمنظومةٍ في تناغم، وأسلوبِ قيادةٍ لا كإملاءٍ بل كإلهام، لا كتحكمٍ بل كمنظومةِ ثقة؟
ربما حين نصغي إلى حكمة هذه المخلوقات الصغيرة، نكتشف أن الذكاء المؤسسي لا يُقاس بحجم الهياكل، بل بقدرة الجماعة على العمل بانسجام، بعقلٍ واحدٍ نابضٍ بروح الجماعة.
كم نحتاج إلى إعادة تعريف الإدارة العامة لتصبح فنّ التناغم لا فنّ التحكم، وفنّ الإلهام لا فنّ الإلزام، حيث تكون الثقة هي القاعدة، والبساطة هي المنهج، والاستدامة هي الغاية.
* اختصاصي التطوير المؤسسي
(Kifaya2020@gmail.com)