الهوية والذاكرة والمكان .. حين يتذكّر الأردن نفسه
د. بركات النمر العبادي
07-10-2025 03:30 PM
في لحظة تتسارع فيها التحوّلات من عمّان إلى العقبة ومن الرويشد شرقا الى الاغوا و الشونة غربا ، يقف الأردني كمن يستعيد وجهه في مرآة غائمة : من نحن؟ وأين نقف بين الذاكرة والمكان؟ سؤالٌ يبدو بسيطًا ، لكنه في العمق فلسفي ، كتلك الأسئلة التي يطرحها المفكر البحريني نادر كاظم في كتابه «الهوية والذاكرة والمكان» ، حيث يرى أن الإنسان لا يولد بهويته جاهزة ، بل يصنعها عبر ما يتذكّره ، وما يتجذر فيه من أمكنة.
بين الذاكرة والهوية... سردية المحافظين
في الخطاب المحافظ الأردني ، تبدو الهوية كنزٌ لا يقدر بثمن و يُخشى عليه من الضياع ، شيءٌ يجب أن يُصان كما هو ، دون أن يمسه العبث من اي نوع كان و دونه الرقاب ولا مساومة عليه ، غير أن نادر كاظم يذكّرنا بأن الهوية ليست متحفًا مغلقًا ، بل كائن حيّ يتنفّس داخل التاريخ، والهوية التي تتجمّد تموت ، وتلك التي تنفتح على الزمن تعيش وتستمر ، وهذا مايؤكد عليه حزب المحافظين في منطلقاته وادبياته الحزبية في هذه الجزئية . ففي الأردن ، يشتبك هذا الفهم مع سردية الذاكرة الوطنية التي تستحضر الثورة العربية الكبرى، والموروث الهاشمي ، والقبيلة ، والجيش ، والبناة الاوائل المؤسسين وفوق الجميع الدستور الاردني .لكن حين تتحوّل الذاكرة إلى “درعٍ ضدّ التغيير”، فإنها تُفقد المجتمع قدرته على التجدّد، وتحوّله إلى متفرّجٍ على زمنٍ يتقدّم من حوله.
المكان الذي يتغيّر... والحنين الذي يبقى
يكتب نادر كاظم عن المكان بوصفه ذاكرة متجسّدة ، لا مجرّد جغرافيا ، وفي الأردن ، هذا المفهوم يجد صدى واضحًا : فالأردنيون الذين عاشوا تحوّل القرى إلى مدن ، والبادية إلى مجتمعات عمرانية متشابكة ، يعرفون جيّدًا ما يعنيه أن يتغيّر المكان بسرعة أكبر من الذاكرة.عمّان اليوم ليست عمّان الأمس ، لكنها أيضًا ليست غريبة عن جذورها ، هنا تتجلّى المفارقة التي يطرحها الفكر المحافظ: كيف نحافظ على روح المكان دون أن نغلق أبواب التحديث ؟وكيف نصون الذاكرة دون أن نحني رؤوسنا أمام الماضي؟
نحو توازن بين الأصالة والتجدد
ربما يكون المعنى الأعمق لما يطرحه كاظم هو المصالحة مع الزمن ، فالهوية لا تُصان بالرفض، بل بالتأويل ، وليست ما نضعه في إطار زجاجي ، بل ما نعيد قراءته كل يوم ، وهنا يمكن للأردن أن يقدّم نموذجًا مختلفًا : دولةٌ تحمي تراثها دون أن تتقوقع فيه ، وتتسع هويتها الوطنية لتشمل كل من يؤمن بهذا الوطن ، في مزيجٍ إنساني يعبّر عن روح المكان لا عن نقائه.
حين تتصالح الذاكرة مع المستقبل
في النهاية ، لا هوية بلا ذاكرة ، ولا ذاكرة بلا مكان.
لكن حين يلتقي الثلاثة في وعيٍ متوازن ، يصبح الانتماء فعلًا حيًّا لا شعارًا.
ربما هذا ما تحتاجه جميع التيارات المحافظة اليوم : أن ترى في الهوية جسرًا للمستقبل لا سورًا للماضي ، فالمكان الأردني ، بتاريخه وناسِه وتحوّلاته ، لا يزال قادرًا على أن يروي قصته من جديد — إذا أصغينا إليه.
وحين يتنفّس المكان ذاكرته ندرك ان الهوية ليست ما نحمله في بطاقاتنا ، بل ما يسكن في أعماقنا حين نسمع اسم قرية بعيدة ، أو نشمّ رائحة الغبار بعد المطر.الهوية ليست شعارًا ، بل نبضٌ يربط الإنسان بما مضى وما لم يأتِ بعد ، في الأردن ، كما في كل أرضٍ حملت ذاكرةً أطول من عمر ساكنيها ، يبقى المكان شاهدًا صامتًا على تحوّل الوجوه وتبدّل الحكايات ، لكنه لا يفقد صوته أبدًا.
في الأزقّة القديمة ، وفي مدنٍ تنهض من الرمل إلى الإسمنت ، ثمة خيطٌ رفيع يشدّ الذاكرة إلى الجغرافيا — خيط لا يُرى ، لكنه لا ينقطع، وحين يمدّ الإنسان يده إليه ، يكتشف أن الهوية ليست شيئًا يُدافع عنه فحسب ، بل شيءٌ يُعاد اكتشافه في كل لحظة حنين ، وكل خطوة نحو المستقبل ، ربما لهذا ، فإن أجمل ما يمكن أن نفعله هو أن نترك للمكان أن يتذكّرنا كما نتذكّره نحن؛
أن نصغي إلى ذاكرته كما نصغي إلى قصيدةٍ قديمة ، نجد فيها وجوهنا كما كانت ، وكما يمكن أن تكون.
حمى الله الاردن و سدد على طريق الحق خطى قيادته وشعبه