المتقاعدون العسكريون .. طاقات تبحث عن مشاريع بحجمها
محمود الدباس - أبو الليث
08-10-2025 01:30 PM
كان الحسين عليه رحمة الله.. يؤمن أن الرجال الذين خدموا الوطن في الميدان.. لا يجوز أن تُطوى صفحاتهم مع آخر يوم في الخدمة.. لذلك وُلدت الفكرة.. مؤسسة تجمع رفاق السلاح.. لا لتمنحهم إحساناً.. بل لتفتح أمامهم باب الإنتاج من جديد.. لتكون الرافعة الاقتصادية.. التي تُشغّل عقولهم وسواعدهم.. وتُعيد استثمار خبراتهم في خدمة الوطن.. كما كانوا يفعلون في الميدان..
ولأن الابن سار على درب الأب.. فإن جلالة الملك عبدالله الثاني أمد الله بعمره بالخير والصحة والعافية.. وهو الذي عاش الجيش بكل تفاصيله.. أولى المتقاعدين العسكريين اهتماماً بالغاً.. وجعلهم دوماً في قلب خطابه الوطني.. فهو العارف بما أراده والده المغفور له بإذن الله الملك الباني من هذه المؤسسة.. لذلك لا تكاد تخلو مناسبة من توجيهاته.. برفع سوية المتقاعدين والارتقاء بظروفهم المعيشية.. والاستفادة من خبراتهم في البناء الوطني.. بل إن جلالته لا يملّ من الدعوة إلى الشراكة بين القطاعين العام والخاص.. فكيف إذا كانت المؤسسة المعنية تضم عشرات الآلاف من الطاقات الجبارة.. التي خدمت الوطن بإخلاص.. وما زالت قادرة على العطاء.. ومحسوبة على الوطن بشقيه العام والخاص؟!..
منذ عام 1974.. وُضعت اللبنات الأولى لما سُمّي آنذاك المؤسسة الاقتصادية والاجتماعية للمتقاعدين العسكريين والمحاربين القدماء.. وكان الاسم ذاته.. يحمل رؤية متقدمة على زمنها.. فأن تمنح مؤسسة صفة الاقتصادية.. يعني أن يراد لها أن تنتج.. أن تخوض السوق بعقلية المنافس.. لا بعقلية المنتظر.. أن تُدير مشاريع وطنية.. تسند الاقتصاد.. وتُسهم في التنمية.. وتخلق فرصاً لأبنائها..
لكن المسافة بين الفكرة والتنفيذ كانت طويلة.. ومع مرور الأعوام.. بدأت المؤسسة تنكمش داخل جدرانها.. وانقلبت من ذراع اقتصادية مستقلة.. إلى جهة أقرب إلى الجمعية التعاونية.. تمارس بعض النشاطات.. وتنفذ عقود حراسة.. ونقل وخدمات محدودة.. مشاريعها لا توازي عدد منتسبيها.. ولا حجم الطاقات الكامنة في صفوفها.. فبدلاً من أن تكون قلعة استثمارية.. تشغل آلاف المتقاعدين.. باتت تُشغّل عدداً محدوداً في أعمالٍ.. لا تعكس كفاءتهم.. ولا خبراتهم..
الغريب أن القانون لم يكن مقيداً لها.. بل كان محرراً بكل معنى الكلمة.. إذ منحها استقلالاً مالياً وإدارياً.. ومنحها صلاحية الدخول في أي استثمار.. أو مشروع تراه مناسباً.. أي أن النص كان سابقاً لعصره.. لكن مَن تولوا الإدارة في كثير من المراحل.. لم يدركوا معنى هذا الاستقلال.. فتعاملوا مع المؤسسة بعقلية الإدارة.. لا بعقلية الاقتصاد.. بعين الحذَر.. لا بعين الطموح..
اليوم.. ونحن نتحدث عن مؤسسة.. تضم أكثر من 230 ألف متقاعد.. منهم ما يقارب 120 ألف منتسب رسمي.. فإننا نتحدث عن قوة بشرية هائلة.. فيها أطباء.. ومهندسون.. وفنيون.. وإداريون.. ومخططون.. فيها رجال خبروا الميدان.. وتعلموا الانضباط والالتزام.. والقدرة على الإنجاز.. أي أن فيها كل مقومات النجاح لأي مشروع وطني.. يُراد له أن ينهض على أساس من الجدية.. والولاء.. والمهارة.. ناهيك عن ثقة المؤسسات المالية بهذه الفئة الوطنية.. والمؤسسات التي تمثلها.. ولن أتطرق للمواطنين.. فثقتهم مطلقة بكل شيء يخرج من بين يدي هؤلاء الرجال الرجال..
فلماذا لا تكون هذه المؤسسة.. شريكاً في مشاريع الأمن الغذائي؟!.. ولماذا لا تدير مزارع حديثة.. ومصانع؟!.. ولماذا لا تدخل في مشاريع الطاقة البديلة.. أو الخدمات اللوجستية.. أو السياحة البيئية؟!.. أليست هي أحقّ بهذه الفرص من الشركات الطارئة.. التي لا تمتلك تاريخاً.. ولا خبراتٍ كخبرات هؤلاء الأشاوس؟!..
التصور الأمثل اليوم.. أن تُدار المؤسسة بعقلية اقتصادية احترافية.. عبر مجلسٍ.. يضم خبراء في الاستثمار والتمويل والتنمية.. سواء من المتقاعدين المشهود لهم في هذا المجال.. أو من المدنيين.. إلى جانب ممثلين عن المتقاعدين أنفسهم.. وأن تُحوّل وحداتها.. إلى شركات متخصصة.. تعمل في مجالات الإنتاج الزراعي.. والصناعي.. والتقني.. على أن يُعاد هيكلة العلاقة مع الدولة.. لتكون علاقة شراكة.. لا تبعية..
فالمؤسسة لا تحتاج إلى معجزة لتنهض.. بل إلى إدارة استشرافية إقتصادية.. تؤمن أن الجندية ليست رتبة تنتهي.. بل روح إنتاج لا تموت.. وما زال في صدور المتقاعدين نفس الحماسة.. التي حملوها في خنادقهم.. وكل ما ينتظرونه.. وطن يحتضن خبرتهم كما احتضنوا رايته يوماً.. وربما غادروا مواقعهم الميدانية.. لكن الوطن ما زال يراهم في موقع القلب.. وما أجمل أن تُعاد ترتيب الصفوف من جديد.. صفٌ للعمل.. وصفٌ للعلم.. وهدف واحد.. اسمه الأردن الأغلى.. والأقوى..