إعادة توزيع الألم على الطاولات الدبلوماسية ..
محمود الدباس - أبو الليث
12-10-2025 06:15 PM
في كل مرةٍ تخمد فيها أصوات المدافع.. تُفتح الطاولات.. ويُعاد ترتيب الوجع على مقاساتٍ جديدةٍ.. وكأن الدم الفلسطيني يُدار اليوم.. بمنطق المحاسبة السياسية.. لا بمنطق العدالة.. فالعواصم الباردة.. تعرف جيداً كيف تحول المأساة إلى ملفات.. والجرح إلى بندٍ في مفاوضات.. حتى أصبح الألم نفسه سلعةً تُساوم عليها الوفود.. ويُعاد توزيعها.. بما يرضي موازين القوى.. لا موازين الحق..
في شرم الشيخ اليوم.. وفي غيرها غداً.. لا يدور نقاش حول جوهر القضية.. بل حول كيفية إبقاء الجرح مفتوحاً دون أن ينزف كثيراً.. تُمنح الشعوب وعوداً بالرفاه.. بالإعمار.. بالمساعدات.. لكنها وعودٌ تُشبه الأقراص المخدّرة.. التي تُسكّن الوجع.. ولا تشفيه.. لأن أصل الداء لا يكمن في نقص الغذاء.. أو الكهرباء.. بل في غياب الكرامة.. والشعوب لا تعيش على الخبز وحده.. فالجائع قد يصمت يوماً.. أما المقهور فلن يصمت دهراً..
إن الدهاء الغربي الذي يقود هذه الطاولات.. لا يفاوض فقط على وقف النار.. بل يفاوض على شكل الوعي.. الذي يجب أن يسود بعد النار.. يسعى لتطويع الذاكرة.. لجعل الفلسطيني يرى في تحسين معيشته.. ثمناً كافياً للتنازل عن حقه في تقرير مصيره.. ولجعل المقاومة مجرد فصلٍ قديمٍ في كتابٍ يريدون إغلاقه.. لكنهم يجهلون أن المقاومة.. ليست تنظيماً يُحل.. أو جناحاً يُقصّ.. بل فكرٌ متجذر في الإنسان الفلسطيني.. يولد من تحت الركام إن لزم الأمر.. ويعيد تعريف الصمود كلما ظنوا أنه انتهى..
الكيان الصهيوني يدرك.. أن الخطر الحقيقي عليه ليس في الصاروخ.. بل في الفكرة.. لذلك يحاول إحلال نفسه بديلاً عن الشعب الفلسطيني.. يريد أن يبني حياةً للفلسطينيين تحت رايته.. وأن يصنع رفاهيةً محكومة بإذنه.. ليجعل من الفلسطيني مواطناً محسّناً.. لا صاحب قضية.. إنه مشروع إحلالٍ ناعمٍ.. وهو أكثر خطراً من الاحتلال الصلب.. لأن هدفه أن يبقى منتصراً في العقول.. قبل الخرائط..
لهذا.. يجب أن يكون وعينا أسبق من ردّات فعلنا.. وأعمق من التصريحات البراقة.. التي تُسوّق للسلام الزائف.. فما يجري ليس مصالحة.. بقدر ما هو إدارة للغضب.. وإعادة توزيعٍ للألم.. بحيث لا يفيض على حدود المسموح.. أما الشعوب فعليها أن تُدرك.. أن قبول الهدوء.. لا يعني قبول الذل.. وأن الكرامة.. ليست رفاهية سياسية.. بل جوهر الحياة نفسها..
قد تؤخر الاتفاقيات الفكرة.. وقد تُغري الناس بسلامٍ هش.. ومشاريع إعمارٍ ملوّنة.. لكن الفكرة لا تموت.. لأنها أكبر من الرغيف.. وأعمق من السياسة.. ولأن الإنسان الذي تذوّق طعم الحرية ولو لحظة.. لا يمكن أن يرضى بعدها بطعامٍ يُقدم له على مائدة العبودية..