قراءة في نتائج استطلاع مركز الدراسات الاستراتيجية
د. تمارا زريقات
12-10-2025 07:30 PM
تعد استطلاعات الرأي احدى اهم ادوات الدولة الحديثة في فهم مجتمعها وصناعة قراراتها اذ تعتمد منهجية علمية احصائية تتفاعل بلغة الارقام والمؤشرات لتكون بوصلة وطنية دقيقة تقيس نبض العلاقة بين الدولة والمجتمع وتتيح قراءة التحولات بموضوعية وعمق بعيدا عن الانطباعات او المزاج العام وبذلك تقدم نتائجها كمادة علمية يستفيد منها صناع القرار والباحثون على حد سواء بما يجعلها ركيزة في منظومة المعرفة الوطنية.
وفي هذا الاطار يواصل مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الاردنية اداء دوره الوطني والعلمي بوصفه بيت الخبرة الوطني في تحليل الاتجاهات المجتمعية والسياسية واحد ابرز مراكز التفكير (Think Tanks) في المنطقة اذ يشكل مرجعا موثوقا لرصد اتجاهات الرأي العام وتحليل سلوك المجتمع الاردني سياسيا واجتماعيا ضمن نهج علمي منتظم يقوم على الاستمرارية والمقارنة الزمنية بما يقدم لصانع القرار صورة دقيقة ومتوازنة تعكس نبض المجتمع ووعيه الجمعي.
وقد التزم المركز خلال السنوات الاخيرة باجراء استطلاعات دورية لاداء الحكومات تنفذ في محطات زمنية محددة تتيح تتبع التغيرات في المزاج العام واتجاهات الرأي الوطني حيث نفذت استطلاعات مرحلية منذ تشكيل الحكومة الحالية في ايلول 2024 مرورا باستطلاع المئة يوم في كانون الثاني 2025 واستطلاع المئتي يوم في نيسان 2025 وصولا الى استطلاع العام الاول بعد مرور اثني عشر شهرا على التشكيل هذه الدورية المنتظمة منحت نتائج المركز موثوقية علمية عالية ومكنته من رصد تحولات الرأي العام بدقة تراكمية لتكشف عن مؤشرات نوعية تعكس حالة من الاستقرار والاتزان في الثقة العامة وتبرز ملامح وعي شعبي متقدم في قراءة الاداء الوطني.
تكشف نتائج الاستطلاع الاخير ان الثقة العامة في الدولة الاردنية تتسم بدرجة عالية من الاستقرار والاتزان اذ لم يعد الرأي العام محكوما بالانطباعات اللحظية او المزاج المتقلب بل اصبح اكثر ارتباطا بالتقييم العقلاني للاداء استنادا الى النتائج والانجازات الملموسة ويعد هذا التحول مؤشرا نوعيا على نضج الوعي السياسي والاجتماعي للمواطن الاردني الذي يميز اليوم بين النقد البناء ومحاولات التشكيك الامر الذي يعزز مفهوم الشراكة الواعية بين الدولة والمجتمع في ادارة الشأن العام ويؤكد قدرة الدولة على انجاز اولوياتها الوطنية والمضي بثبات في مسار التحديث بمختلف محاوره.
كما تظهر النتائج المرتبطة بمحاور التحديث الثلاث الاقتصادي والاداري والسياسي ان المجتمع الاردني يتعامل مع مشروع التحديث الشامل بوصفه مسارا وطنيا طويل الامد لا مبادرة ظرفية فارتفاع نسب التفاؤل بين 44% و61% يشير الى تشكل وعي مجتمعي عقلاني يدرك ان الاصلاح عملية تدريجية مؤسسية تبنى بالتراكم لا بالقرارات الفورية وبمنظور اوسع تعكس هذه المؤشرات انتقالا من ثقافة المطالبة الى ثقافة المشاركة المسؤولة بحيث اصبح المواطن يربط التغيير بالاستمرارية والمنجز المتحقق ويدرك دوره كشريك رئيسي في عملية التحديث وبناء السياسات العامة وهي نتيجة محورية في ترسيخ القناعة الشعبية بخطاب التحديث الوطني.
وفي البعد الاجتماعي برز الاجماع شبه الكامل بنسبة 95% على اعادة خدمة العلم الى جانب رضا 76% عن تعليمات رفع العلم الاردني كمؤشر وطني لافت على متانة الهوية الاردنية وتماسك القيم التي يقوم عليها المجتمع فخدمة العلم تجسد روح الانضباط والمسؤولية والانتماء وتعزز فكرة العدالة والمشاركة بين الشباب في بناء الوطن فيما تعكس هذه النسب ادراكا وطنيا عميقا بان الانتماء ممارسة يومية تتجسد في احترام الرموز والالتزام بالقيم التي تمثل جوهر الدولة الاردنية وعمق مشروعها الوطني.
اما الفجوة الاتصالية التي اظهرت ان 66% من المواطنين لم يسمعوا بعد بقرار تأمين 4.1 مليون مواطن في مركز الحسين للسرطان فتسلط الضوء على اهمية تطوير منظومة الاتصال الحكومي بما يتناسب مع حجم الانجاز الميداني ونطاقه المجتمعي لضمان ان تصل رسائل الدولة وسياساتها بوضوح الى جمهورها المستهدف بما يوازي الجهد التنفيذي الملموس على الأرض.
وفي البعد الاقليمي اظهرت النتائج ان 87% من الاردنيين راضون عن موقف الدولة تجاه الحرب على غزة وان 71% يرون ان هذه الحرب اسهمت في تعزيز العلاقات الاردنية الفلسطينية وهذه النسب تعبر عن تطابق واتساق بين الموقف الشعبي والسياسة الرسمية وعن ادراك واسع بان الدور الاردني في الاقليم يستند الى ثوابت سيادية راسخة وموقف مبدئي من القضية الفلسطينية كما ان وصف 90% من المستجيبين للعلاقات الاردنية السورية بانها جيدة او جيدة جدا يعكس قبولا شعبيا للنهج الواقعي المتوازن الذي تتبعه الدولة في ادارة علاقاتها الاقليمية ويؤكد الثقة العالية بالسياسة الخارجية الأردنية.
يمكن قراءة هذه المؤشرات في مجملها بوصفها تعبيرا عن مرحلة وعي وطني حيث ان الارقام تظهر حالة ثقة متنامية بالحكومة ورئيسها وتدل على ان المزاج العام يميل نحو التقييم الايجابي لاداء الدولة خاصة في الملفات الوطنية والخارجية ما يعكس استقرارا سياسيا وثقة متزايدة بالمسار الاصلاحي فاستقرار الثقة العامة والاجماع على الثوابت الوطنية والوعي الواقعي بمسارات الاصلاح جميعها تعكس حيوية المجتمع الاردني وقدرته على تعزيز الثقة من داخل منظومته بما يرسخ علاقة متوازنة بين الدولة والمواطن تقوم على الشراكة والمسؤولية المشتركة وتمثل هذه المؤشرات في مجموعها دليلا على نضج العلاقة بين الدولة والمجتمع واستقرار المسار الوطني في بيئة اقليمية تتسم بالتحول المستمر.