قريب يُفصل في الصباح .. ويُكرم في المساء
محمود الدباس - أبو الليث
14-10-2025 10:57 PM
ما بين الإدارة العربية والأجنبية.. مسافة لا تقاس بالكيلومترات.. بل تُقاس بثقافة التعامل مع الخطأ.. وبفلسفة احترام النظام.. حين يتعارض مع العاطفة.. ففي الغرب لا يُعامل القانون كخصم.. بل كصمام أمان.. بينما في الشرق العربي.. ما زلنا نرى النظام كوجه آخر للجمود.. فنبحث عن استثناء.. ونبرر الخلل بالعرف.. أو القرابة.. أو النية الحسنة..
في الإدارة الأجنبية.. لا يُسأل المدير لماذا طبّق القانون.. بل يُسأل الموظف لماذا تجاوزه.. هناك.. لا مكان للانفعالات في القرارات.. لأن القرار نفسه محمي بنظام لا يعرف التردد.. فلا يحتاج المدير أن يشرح.. أو يبرر.. أو يقنع.. فالقانون يتحدث عنه.. واللوائح تحميه من أهواء التفسير.. لذلك تجد الاحترام متبادلاً.. حتى في لحظات الفصل.. أو العقوبة.. لأن الجميع يعرف أن الخطأ لا يُغطى بالمحبة.. ولا يُغتفر بالمجاملة..
أما في الإدارة العربية.. فغالباً ما يُختزل القانون في مزاج المسؤول.. وتُستبدل الأنظمة بالعلاقات.. ويصبح القرار خليطاً من التردد والمجاملة.. فيُسأل المدير قبل اتخاذ القرار ماذا سيقول فلان؟!.. وهل سنُحرجه؟!.. حتى يتحول الخطأ من فعلٍ يُحاسب عليه صاحبه.. إلى مساحةٍ للتفاوض والمجاملة.. وليته يقف عند هذا الحد.. فقد يصل الأمر في كثيرٍ من الاحيان الى مناكفة.. فنفقد هيبة القرار.. ونزرع بذور التسيّب في تربةٍ.. كانت تحتاج للانضباط.. لا للعاطفة..
الإدارة العربية ما زالت أسيرة مفهومٍ خاطئ للإنسانية.. فترى في الحزم قسوة.. وفي تطبيق النظام جفاء.. وفي المحاسبة انتقاماً.. بينما الإدارة الناجحة تعلم.. أن العدالة ليست في العفو.. بل في المعيار الواحد.. الذي لا يعرف اسماً.. ولا نسباً..
أتذكر حين عملت في شركة بريطانية في الأردن.. كان صاحبها أردنياً.. يحمل الجنسية البريطانية.. لكنه كان يحمل قبلها عقلية لا تعرف التناقض.. جمع بين الدم العربي والصرامة الإنجليزية.. كان بين موظفيه إخوة وأقارب.. ومع ذلك.. لم يتردد يوماً في فصل قريبه في الصباح.. ثم دعوته في المساء إلى مأدبةٍ راقية كالمعتاد.. وكأن شيئاً لم يكن.. لأن العلاقة الشخصية شيء.. والوظيفة شيء آخر.. والخلط بينهما هو أولى خطوات الانهيار الإداري..
لم تكن تلك الشركة الأقوى لأنها غنية.. بل لأنها عادلة.. لأن القانون فيها لم يكن شعاراً على الورق.. بل ممارسةً يومية تحمي الجميع.. ولذلك استمرت.. وتمددت نحو العالمية.. واحتُرم اسمها في أسواقٍ كثيرة.. بأيدٍ أردنية مؤمنة بالنظام قبل الإيمان بالمجاملة..
إن مشكلتنا في الإدارة العربية.. ليست في نقص القوانين.. بل في ضعف احترامها.. وليست في غياب الكفاءات.. بل في غلبة العواطف على القرارات.. حين نصل إلى لحظةٍ.. لا نتردد فيها في محاسبة القريب.. كما نحاسب الغريب.. عندها فقط.. يمكن أن نقول.. إننا بدأنا نسير نحو الإدارة الحقيقية.. لا تلك التي تدار بالعلاقات.. بل التي تُبنى على الثقة.. والعدالة.. والانضباط..
فالقانون حين يُصبح شخصيةً مستقلة لا تخضع للعاطفة.. يصبح هو الضمانة لبقاء المؤسسة.. وحين يتحول إلى وجهٍ من وجوه الود.. أو الغضب.. تتحول المؤسسة كلها إلى مزاجٍ متقلب.. لا يدوم ولا يُثمر..
إن الإدارة الناجحة.. ليست تلك التي تُرضي الجميع.. بل التي تُنصف الجميع.. حتى لو أغضبت بعضهم.. لأن العدالة لا تُقاس بعدد الابتسامات.. بل بعدد المواقف التي بقيت ثابتة.. حين اهتزت العواطف..