facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




العقل الجمعي .. الصندوق الأسود(28)


د. كفاية عبدالله
18-10-2025 06:51 PM

الأزمات التي تعصف بالمجتمعات لا تكشف حجم التحديات بقدر ما تفضح طريقة تفكيرنا: تفكير خطي سطحي، يختزل التعقيد في مشهد واحد، والخلل في شخص واحد، والمشكلة في تصريح عابر. فنحوّل واقعًا مركّبًا إلى سردية مريحة… لكنها كاذبة مضللة، تشوّه التاريخ وتحرف حروفه.

نهرب من مواجهة عمق الأسباب لأننا نخشى أن نرى أنفسنا جزءًا منها، فنبحث عن كبش فداء نعلّق عليه كل ما اختلّ، ونتوهّم أن الإصلاح سيحدث بمجرد إقصائه أو إقالته. وهكذا نحافظ على استقرار زائف، ونخدع أنفسنا بأننا "قمنا بالواجب"، بينما الحقيقة أن الخلل بنيوي، متجذّر في طريقة تفكيرنا قبل أن يكون في مؤسساتنا.

الأزمات لا تخلق الوعي… إنها تكشف مدى مستواه وعمقه في المجتمعات. تكشف عن نمط من التفكير يُفرغ المسؤولية من معناها، ويحوّل المواجهة إلى هروب جماعي خلف أعذار جاهزة، وتهم ملفقة لمن هو مقابلنا، دون مراجعة أحداث الماضي وأفعال الحاضر وما أعددنا من خطط لاستقبال الغد.

نهرب من التعقيد فنُبسّطه ظلمًا، ونفرغ مسؤوليتنا في شخص أو حدث أو قرار، وننسى أن الجميع مسؤول، كلٌّ حسب موقعه، بدرجة ما عمّا وصلنا إليه أفرادًا ومؤسسات.
الإنسان بطبعه يخاف من زعزعة المألوف، ويركن إليه. يولد داخل منظومة يعتبرها “طبيعية”، ويُطبع وعيه على أن ما وُجد عليه هو الصواب.

وحين يواجه دعوةً لتغيير ما اعتاده، يشعر بالتهديد لا بالتحفيز، بالخوف لا بالتحفيز، بالطعن والتشكيك لا بالدعم. إنها الغريزة القديمة التي تجعلنا نتمسك بالخطأ المألوف أكثر من الصواب المجهول، نحتمي بالتكرار لأنه يمنحنا وهم الأمان، لا لأن فيه الحقيقة والنجاة.

وفي داخل كل مجتمع، كما في داخل كل إنسان، عقلان يتصارعان: عقل سريع تحكمه العاطفة، يندفع نحو رد الفعل، وعقل بطيء يبحث عن الفهم، يزن الأمور ويعيد تركيبها. لكن حين يعلو صوت الخوف والغضب، يصمت العقل المتأمل ويتولى الانفعال زمام الأمور، فنرى السبب الأقرب ونغفل الجذر الأعمق.

نفكر بخط مستقيم، لكن الواقع يسير بنا في دوائر متشابكة. تلك هي سنة الحياة، منظومة معتقدة متشابكة في طبقات متعددة. ومن هنا تبدأ مأساة التفكير السهل: نرتاح إلى التفسير البسيط لأنه يعفينا من التفكير، وإلى الاتهام لأنه يعفينا من الاعتراف، وإلى الإنكار لأنه يعفينا من الفعل.

لكن الحقيقة أن الأمم لا تسقط بخطيئة فرد، بل بعجز جمعي عن التعلم. حين يتحول التحليل إلى انفعال، والمساءلة إلى تصفية، والوعي إلى ترديد جماعي لما يُقال… يبدأ الانحدار، بل انتحار المجتمعات بطلقة على العقول أن تفكر والانفلات أن ينضبط.

فلا تنهض أمة ما دامت تقيس كل مشكلاتها بمسطرة الأشخاص، وتغفل عن هندسة الأفكار التي تصنع منها الأوطان.

إن الألم هو المعلم الأكبر. لا يتغير الناس إلا حين يدركون أن كلفة الجمود تفوق كلفة التحول، وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وأن الكارثة ليست حدثًا عابرًا، ولا شؤم رؤية فلان؛ بل نتيجة متراكمة لأنماط من التفكير والسلوك والإدارة. فالمجتمعات مثل الأفراد، لا تنضج إلا حين تتعلم أن تنظر في المرآة بلا خوف، وبكل مسؤولية وحسن نية وطنية نشخص الحال وندرس عمق جذور الأحداث، لا العوارض وظاهر الأسباب.

الاعتراف ليس ضعفًا، بل أول مظاهر القوة. والمساءلة ليست عقوبة، بل فعل الجراح لشفاء من العمى الجمعي الذي يجعلنا نعيد إنتاج الأخطاء ذاتها، ثم نفاجأ بالنتائج ذاتها تحيط بنا وتلبسنا من رؤوسنا إلى أخمص أقدامنا.

وهنا تتعاظم مسؤولية المثقفين والمؤثرين في زمن الضجيج. فالكلمة موقف، لا صدى، ولا كسب شعبوي. ومن يملك منبرًا يملك أثرًا، ومن يتخذ موقفًا مشرفًا يحجز لنفسه مقعدًا في سطور التاريخ.

ولكن الطامة حين يعيد عامة الناس رواية ما دون تثبّت أو تحقق، فيشارك – من حيث لا يدري – في إشعال الفتنة، وفي شرخ الوعي الجمعي الذي يحمي الأوطان.
إن حماية السلم المجتمعي تبدأ من الوعي لا من الصراع، ومن تحرّي الحقيقة لا من ترديد الظنون، فالكلمة قد تبني وطنًا أو تهدمه.

والمسؤولية الفكرية ليست ترفًا، بل صيانة للوعي الوطني من التلوث بالعاطفة والانفعال.

إن التغيير لا يبدأ بخطط تُعلّق على الجدران، بل من تحوّل إدراكي عميق يعيد تعريف المسؤولية الجمعية لجميع الأطراف. حين يدرك كلٌّ منا أن له دورًا فيما وصلنا إليه، ودورًا أكبر فيما يمكن أن نكون عليه.

واعلموا أن التفكير الخطي لا يصنع وعيًا، بل يصنع جمهورًا يصفّق اليوم لمن سيلعنه غدًا، أما التفكير المنظومي فيرى الصورة كاملة، ويفهم أن الفشل ليس شخصًا بل نمطًا، وأن النجاح ليس صدفة بل نظامًا.

وأخيرًا، رفقًا بالوطن والمواطن…
فما نحتاجه ليس مزيدًا من الملامة، بل مزيدًا من الفهم. ليس بطلاً ننتظره، بل وعيًا نُنشئه. فالأوطان لا تتغير حين يتغير الأشخاص، بل حين تتغير الأفكار، ويبنى على وعي الشعوب إذا أرادت إرادة الحياة.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :