facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




براءات الاختراع بين الكمّ والجدوى


حسن عبدالحميد الرواشدة
19-10-2025 12:38 PM

في بلدٍ يسعى إلى التحوّل نحو اقتصاد المعرفة، تبدو أرقام براءات الاختراع والعلامات التجارية الصادرة حديثًا عن وزارة الصناعة والتجارة والتموين أشبه بمؤشّرٍ على واقعٍ مزدوج، حيوية إجرائية من جهة، وجمود إنتاجي من جهةٍ أخرى. فحتى نهاية أيلول الماضي، بلغ عدد براءات الاختراع المسجّلة 85 براءة فقط، منها ثلاث محلية، مقابل 3,419 علامة تجارية جديدة و4,998 علامة مجدَّدة. أما العام الماضي، فسُجِّلت 111 براءة (منها ثمانٍ محلية) و5,687 علامة تجارية.

الأرقام تبدو للوهلة الأولى نشاطًا إداريًا منتظمًا، لكنها تكشف في عمقها عن فجوةٍ بين التسجيل والتشغيل، بين الفكرة الورقية والمنتج الصناعي. فحين تُقارن هذه الأرقام بما تُسجِّله دول الابتكار الكبرى مثل الصين بأكثر من 1.6 مليون براءة سنويًا، والولايات المتحدة بأكثر من 300 ألف، وكوريا الجنوبية واليابان بمئات الآلاف، تبدو الـ 85 براءة أقرب إلى ومضات خافتة في مشهدٍ عالميٍّ متوهّج. بل حتى عند احتسابها نسبةً إلى عدد السكان أو الناتج المحلي، يبقى المعدّل الأردني متواضعًا مقارنةً بمتوسط 500 براءة لكل مليون نسمة في الدول الصناعية.

هذه الفجوة لا تُقاس بالأرقام وحدها، بل بقدرة الاقتصاد على تحويل الابتكار إلى قيمة. في الدول المتقدمة، لا تُسجَّل البراءة لتُحفظ، بل لتُفعَّل. الجامعات تمتلك مكاتب نقل التكنولوجيا، تربط الباحثين بالمستثمرين، وتحوّل الفكرة إلى عقد ترخيص، ثم إلى منتجٍ يدخل السوق ويُدرّ العائد. أما في منطقتنا، فغالبية البراءات تنتهي في الأدراج، بلا شراكات ولا تمويل ولا تسويق، لتتحول من أداة نهضة إلى شاهدٍ على غيابها.

اقتصاديًا، هذا يعني أن الأردن ما زال في مرحلة الإحصاء لا الصناعة. فالنشاط التجاري كما يظهر من طفرة العلامات المسجلة يتقدّم على النشاط الابتكاري. الاقتصاد يتحرك حول الاسم التجاري أكثر مما يتحرك حول الفكرة التقنية. وهذا الخلل يعكس غياب حلقة الوصل بين الباحث والقطاع الخاص، إذ لا تزال الجامعات تنتج معرفةً لا تجد طريقها إلى المصنع أو الشركة الناشئة.

سياسيًا، يرتبط هذا الملف برؤية السيادة الاقتصادية. فمن دون ابتكار محليٍّ حقيقي، تظل الدولة أسيرة التكنولوجيا المستوردة والسلع ذات القيمة المضافة المتدنية. بينما الاستثمار في الاختراع هو استثمار في الأمن الاقتصادي وهو ذاته الأمن الذي يحرّر القرار الوطني من التبعية التقنية ويمنح البلد قدرةً على المنافسة.

إن تطوير ملف الملكية الصناعية لا يعني فقط تسهيل التسجيل، بل بناء منظومةٍ متكاملة من التشبيك بين الدولة والجامعة والمصنع. المطلوب إنشاء مكاتب وطنية لنقل التكنولوجيا، وتقديم حوافز ضريبية للشركات التي تطوّر براءات محلية، وتخصيص صناديق تمويل للبحث التطبيقي، ونشر تفاصيل البراءات الممنوحة لتمكين القطاع الخاص من التواصل مع أصحابها.

في التجارب الناجحة، مثل كوريا الجنوبية والصين، كان الاستثمار في البحث والتطوير يعادل أكثر من 4٪ من الناتج المحلي، وهو ما قاد إلى تضاعف أعداد البراءات وتحولها إلى منتجات تصديرية. أمّا في الأردن، فإن الإنفاق على البحث العلمي لا يزال دون 0.5٪، ما يجعل معظم الأفكار تُجهض قبل أن تبلغ السوق.

القضية هنا ليست رقم 85 ولا 111، بل في سؤالٍ أكبر: كم من هذه البراءات تحوّل إلى منتج؟ كم وظيفة خلقها؟ وكم دينارًا أضاف إلى الناتج المحلي؟ إن الجواب عن هذه الأسئلة هو ما يفصل بين التنمية الورقية والنهضة الفعلية.

فبراءة الاختراع ليست وثيقةً تحفظ حقًا فرديًا فقط، بل أداة استراتيجية لصناعة المستقبل. حين تُدار بذكاء وتُربط بالقطاع الخاص وتُحمى بقوانين تنفيذية صارمة، تتحول إلى رافعة اقتصادية، وإلى مؤشرٍ على نضج الدولة في زمنٍ تُقاس فيه السيادة بالابتكار لا بالموارد الطبيعية.

إن الأرقام التي أعلنتها وزارة الصناعة ليست نهاية المطاف، بل بداية السؤال: هل نريد أن نكون أمة تسجّل الأفكار أم تصنعها؟





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :