الأردن 2035: من الرؤية الملكية إلى هندسة الدولة الذكية
د. أميرة يوسف ظاهر
27-10-2025 02:10 AM
في لحظة وطنية تتجاوز المألوف، يأتي خطاب العرش السامي لجلالة الملك عبدالله الثاني بوصفه وثيقة تأسيسية تؤذن بولادة مرحلة جديدة في مسيرة الدولة الأردنية، إنه ليس خطابا سياسيا تقليديا ولا إعلان نوايا، بل بيان تأسيسي يعيد تعريف مفهوم الدولة الحديثة من منطلق تشاركي، تتكامل فيه الرؤية الملكية مع إرادة الشعب، ويتحول فيه الخطاب إلى برنامج، والبرنامج إلى ممارسة واقعية تنعكس على حياة الناس ومكانة الوطن. إن ما يطرحه الملك في خطابه ليس اصلاحا جزئيا، بل هندسة كاملة لمنظومة الفعل الوطني، تعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمواطن من علاقة رعاية إلى شراكة، ومن منطق الاستحقاق إلى منطق المسؤولية.
في هذا السياق، يتبدى التحول المطلوب بوصفه إعادة إنتاج لمفهوم السيادة في زمن المعرفة؛ إذ لم تعد القوة تقاس بالحدود الجغرافية أو الموارد المادية، بل بقدرة المجتمع على إنتاج المعرفة وتحويلها إلى قيمة مضافة، هنا تبرز أهمية الانتقال من مجتمع يستهلك الفكر إلى مجتمع يصنعه، ومن دولة تكتفي بإدارة الواقع إلى دولة تصوغ مستقبلها. فالسيادة المعرفية هي الدرع الحقيقي أمام التحديات، وهي الطريق الأقصر نحو تمكين الأجيال القادمة من قيادة التحول لا التكيف معه.
ولأن بناء المستقبل لا يتم عبر الأمنيات، فإن الرؤية الملكية تدعو إلى هندرة مؤسسات الدولة لتصبح أكثر مرونة وابتكارا؛ فالمطلوب ليس اصلاحا اداريا محدودا ، بل إعادة تصميم شاملة تجعل المؤسسات الحكومية منصات تفكير وإبداع، تعمل بعقلية الشركات الناشئة لا الجهاز البيروقراطي. تقوم هذه المنظومة على الحوكمة الذكية، التي تستبدل التسلسل الهرمي الجامد بشبكات تشاركية تجمع بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني في منظومة واحدة. وفي قلب هذه البنية المقترحة، يأتي مجلس تخطيط استراتيجي أعلى يشكل البوصلة الوطنية، ووحدات تنفيذ مستقلة تتمتع بصلاحيات مرنة، ومنصة رقمية للرصد والتقييم توفر مؤشرات لحظية للأداء الوطني، ليصبح القرار مبنيا على البيانات لا الانطباعات.
أما في المسار التنموي، فإن التحول النوعي يبدأ من التعليم، فالمؤسسات التعليمية مطالبة بأن تتحول من ساحات لتلقين المعرفة إلى مصانع لإنتاجها، حيث تصبح الجامعة حاضنة للابتكار والمدرسة ورشة لبناء المهارات، هذا التحول المعرفي هو الذي يخلق قاعدة بشرية قادرة على قيادة الاقتصاد الجديد، اقتصاد يقوم على الإبداع والبحث العلمي والتقنيات المتقدمة. وفي موازاة ذلك، لا بد من إطلاق منظومات ابتكار إقليمية تربط البحث بالصناعة، وتجعل من الطاقة المتجددة والتقنيات النظيفة قطاعات تأسيسية للاقتصاد الأردني المستقبلي.
تمويل هذا التحول يتطلب أدوات مالية غير تقليدية، تجمع بين كفاءة السوق ورؤية الدولة، فصندوق التحول الوطني يمكن أن يشكل منصة تمويل ذكية تستقطب رؤوس الأموال من القطاعين العام والخاص ضمن شراكات مستدامة، كما أن استخدام أدوات مثل سندات الأثر الاجتماعي والتمويل الإسلامي الاستراتيجي يوفر حلولا مبتكرة تمزج بين التنمية والعائد المالي. غير أن المال وحده لا يصنع التغيير؛ ما يصنعه هو الكفاءة في الإنفاق والمساءلة في التنفيذ، لذلك فإن نظام القياس الوطني يجب أن يراقب الأداء عبر مؤشرات واضحة مثل المرونة المؤسسية، والعمق المعرفي، ومعدل الابتكار المجتمعي، وهي معايير تقيس جودة التغيير لا كميته.
ولا يمكن لأي مشروع وطني أن يكتمل دون مشاركة المجتمع في صياغة تفاصيله، فالمجالس المحلية ومنصات الحوار المفتوحة ليست آليات شكلية، بل أدوات لقياس نبض المجتمع وإدماجه في اتخاذ القرار، إن التحول الحقيقي يبدأ عندما يشعر المواطن أن صوته مسموع وأن فكرته يمكن أن تتحول إلى مشروع، وأن الوطن فضاء مفتوح للإبداع لا ساحة للتلقي.
الرؤية الملكية للأردن 2035 ليست حلما مؤجلا بل خطة تحول واقعية تستند إلى الفكر والعمل معا. فالأردن الجديد يبني على أسس الذكاء المؤسسي، والاقتصاد الرقمي، والحكومة المتكاملة التي تدار بالبيانات وتقاس بالنتائج. هو مشروع دولة ذكية، تعيد تعريف التنمية بوصفها استثمارا في الإنسان قبل الحجر، وفي الفكرة قبل المشروع.
إن الانتقال من البيان إلى الفعل يحتاج إلى إرادة سياسية حازمة وقيادة تحويلية تؤمن أن التغيير ليس حدثا بل مسارا، وإلى مجتمع واع يدرك أن المستقبل لا يمنح بل يصنع.
هذه هي روح التحول الوطني الذي دعا إليه الملك: أن نخرج من دائرة رد الفعل إلى الفعل، ومن التبعية إلى الشراكة، ومن التقليد إلى الإبداع. فالأردن يقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة، لا تقاس بما تحقق فقط، بل بما يمكن تحقيقه حين تتوحد الإرادة وتتجسد الرؤية في واقع يليق بتاريخ هذا الوطن وطموح قيادته.