النخب الأردنية بين "المنضبط والمُنسحب"
م. علاء فخري عبيدات
29-10-2025 09:25 PM
تُعرف النخب بأنها الفئة المؤثرة في المجتمع سواء سياسيًا أو اقتصاديًا أو ثقافيًا والتي تمتلك أدوات التأثير وصناعة القرار أو على الأقل القدرة على توجيهه وحتى مساءلته، وفي المشهد الأردني تعاني النخب السياسية والاجتماعية من أزمة مزدوجة تمنعها من تحقيق دورها، ويمكن تلخيصها بعاملين أساسيين، الأول ضعف التأثير في صناعة القرار، الثاني انفصال شبه تام عن نبض المجتمع وهمومه.
هذه الأزمة لا تنعكس فقط في الأداء النخبوي الهزيل بل تتعمق أكثر مع ما يمكن تسميته بـ الفجوة المتزايدة بين الدولة والمجتمع، وكلما اتسعت هذه الفجوة يضيق دور النخبة ويظهر هزيلًا مأزومًا، بالأحرى لا تكون هذه النخبة موجودةً أصلًا! وعلى رأس هذا العبث النخبوي تعيش الأردن بنخبها ومجتمعها مضاعفات ما بعد "أزمة الثقة"، فلم تعد مشكلة "أزمة الثقة" ذاتها التي يعيشها أي شعب وأي حُكم، بل وصلت لمستويات متقدمة أردنيًا، على رأسها عدم تبني الناس لأي رؤية أو مشروع تقدمه أو تقوده النخب.
عرفت الأردن أكثر من نموذج للنخب، كان النخب رموزًا عشائريةً آمن بهم الناس لأنهم منسجمون معهم ومع بيئاتهم وآمالهم ببناء دولة تسودها العدالة الاجتماعية والقيم الكبرى (العدالة، العروبة، محاربة الاستعمار، القضية الفلسطينية)، ولن أبالغ لو قلت أن نسبة شيوخ العشائر ووجهاء المناطق هي الأعلى في أي وثيقة تاريخية لمؤتمر وطني أردني، كذلك كان قادة الجيش منخرطون في السياسة وقلما تجد يساريين في جيش يحمي مملكة مثل الأردن كما كان في الستينيات، وكان لجنرلات النخب الأردنية طابعًا عروبيًا يشتركون فيه مع نخب الشيوخ والوجهاء، ربما كان في الأردن مشهد سياسي حقيقي حينها لأن النخب تتجاذب أكثر مما تتنافر كما حدث بين هذين النموذجين لعقود طويلة.
جاء نموذج المثقفين النخبة مبكرًا إلى الأردن وكانوا محملين بالأحلام العربية أولًا وبالعدالة الاجتماعية والتثقيف والوعي أردنيًا، ويمكننا الاستدلال على نماذج منهم، أمثال الكاتب الأردني الطفيلي محمد بطاح المحيسن الذي كتب "الفريسة" في وصف حال المواطنيين العثمانيين مطلع القرن الماضي، ومثله مصطفى وهبي التل الذي وازن بين عروبته وأردنيته، وغالب هلسا الذي كان صوتًا نخوبيًا مشتبكًا بالقلم والبندقية والوعي مع قضايا الإنسان والعدالة، وسالم النحاس وتيسير سبول وحيدر محمود وحبيب الزيودي، وتطول قائمة النخبة المثقفة.
كان على طول حضور النخب الأردنية عمودًا ثابتًا يتلخصُ برجال الدين، وكانت نخبويتهم على مقاس الوعي والضرورة العاطفية الدينية في الأرياف والبوادي، ليس أهم من أزهري أو شيخ كُتاب ليتصدر المجتمع المحلي في قريته أو باديته، إلا أن الحالة الدينية للنخب أصابها شيء من الخلط والمس الدنيوي حينما بدأت الحركات الإسلامية السياسية تظهر على الساحة منذ ثلاثينيات مصر وخمسينيات الأردن ليبرز على ساحة النخبة الدينية الإخوان المسلمون والتحريريون والسلفيون وغيرهم، لتتحول النخبة الدينية من عاطفة ووعظ منبري إلى مزاحمة سياسية وتراشق جهادي.
حين أطل النقابيون برؤوسهم ودخلوا حالة النخب عاش المشهد السياسي حالة من الاصطفافات التي جعلت الحكم على النقابات المهنية الأردنية صعبًا في سياقها التاريخي، فلا يمكن القول أنها شكلت حالة فريدة وجادة بالمطلق، كذلك لا يمكن الاستهانة بأثرها في ثمانينات القرن الماضي على الأقل، وربما هذا لأن النقابات لم تكن نقابات مهنية فقط بل جاء كل نقابي بحمولته السياسية والإيدولوجية لتصبح النقابات ساحةً واسعة لأُطر ضيقة!
كان لا بد من هذا التمهيد لنتأمل معًا حالة النخب، وهل تقوم بدورها؟ وأظن أن بداية الحكم على دورها نابع من معرفة كيف يتم فرز هذه النخب حاليًا، وقد اعتمد الأردن الرسمي آلية إنتاج النخب في الأردن بطريقة الدمج بين " الرضا الرسمي والقبول الاجتماعي " أي أن النخب كانت تتبوأ موقعها نتيجة توازن بين تمثيلها لشرائح اجتماعية حقيقية وبين قربها من النظام السياسي
لا يملك السياسي الأردني جهازًا لقياس القرب المنطقي من النظام السياسي وكيف يكون منطقيًا ومن ضرورات العمل بأدوات المرحلة أو أن يصل هذا القرب حد التبعية وتنفيذ التعليمات! الأمر الذي يقودنا لما يحدث اليوم عبر إنتاج النخب بآلية فوقية ترتكز على الولاء لا الكفاءة، وعلى الانضباط لا الإجتهاد (كما صرح أحدهم مؤخرًا) لنكون أمام نخب مبتورة لا تملك قاعدة اجتماعية حقيقية ولا شرعية ولا مبادرة، وبهذا تصبح النخبة "نكبة" بطريقة أو بأخرى.
في المشهد الأردني تزداد حالة النخب تعقيدًا ليس بسبب ضعف التأثير أو الانفصال عن المجتمع فحسب بل بفعل انسحاب بعض النخب المؤثرة المثقفة من العمل العام وتراجعها طواعية عن أداء دورها، هؤلاء الذين يفترض بهم أن يكونوا " حراس الوعي " اختار كثير منهم الصمت أو الانسحاب، الأمر الذي خلق فراغًا هائلًا ملأته نخب مصطنعة ومنفصلة عن الهم العام إلى الهم الخاص والخاص جدًا.
هذا الانسحاب ( الطوعي أو القصري ) لا يقل خطورة عن النخب " المبتورة " التي تتصدر المشهد بل إن صمت المثقف وتقاعس القادريين على التأثير يمثل خيانة للمعنى الحقيقي للنخبة وهنا يمكن تسميتهم النخب " المتقاعسة " أو " المحبطة " التي اختارت الانزواء إما بفعل تضييق أو يأس او ترف فكري لا يرتبط بالعمل الجاد.
قد يفهم الانسحاب كرد فعل على خيبات أو انسداد الأفق لكنه في المحصلة يساهم في تعزيز اختلال ميزان القوة ويفتح الباب أمام " نخب وظيفية " تملأ الفراغ بخطاب تقليدي خال من العمق أو التأثير وتعيد إنتاج المشكلات بدل مواجهتها، والأخطر، لو انسحبت النخب التي ذكرتها آنفًا لنفس الداوفع لما وصلنا إلى الأردن الذي نحن فيه اليوم.
ما نشهده اليوم مجرد طغيان للحالة الفردية أو المشروع الفردي على حساب المشروع العام المجتمعي، وأصبح هذا ظاهرة خطيرة ونلمسها في كل مكان وموقع وعمل، ليفضي هذا إلى ما نراه اليوم من انتماء ضعيف والعزوف السياسي والهجرة (أصبح لها تشجيع رسمي) وفقدان الثقة بأي مشروع وطني.
أن تكون نخوبيًا وطنيًا فاعلًا، لا بد أن ترفض الانسحاب بوصفك مثقف وصاحب رأي، وإذا لم تنسحب عليك أن لا تصمت لأن الصمت والانسحاب وجهان لعملة واحدة، هي خذلان البلد، ولئلا أكون رومانسيًا لا بد للدولة من إعادة بناء العلاقة مع المجتمع على أساس الشراكة والكفاءة ودرجة الولاء المُفترضة!، كذلك أن نتوقف عن اتباع عرابي التحديث والتطوير الذين يفسدون أي مشروع قبل بدايته ومنذ إعلان ترأسهم لهذا التغيير، وينطبق هذا على الحزبيين "القدامى الجدد" بضرورة إطفاء زر نرجسيتهم وبروزهم على حساب أحلام وآمال حزب كامل، بل إن بعضهم يزعَل كأنه موظف لم يحصل على الثناء المطلوب أو الترفيع المُستحق، فينسحب.. إن العمل العام وخدمة الناس (الوطن) ليس شركة تفسخ عقدك معها حين تشعر أن نرجسيتك قد خُدشت.