من مركزٍ يستضيف الخوادم .. إلى شركةٍ تبني السيادة
محمود الدباس - أبو الليث
30-10-2025 12:56 AM
ما بين فكرة الاستضافة وفكرة السيادة.. مساحة لا تُقاس بالأجهزة ولا بالمباني.. بل تُقاس بمدى إدراك الدولة لقيمة المعلومة.. وكيف تحولها من ملفٍ يُحفظ في خادمٍ صغير.. إلى ركيزةٍ تحفظ بها وجودها في العالم الرقمي..
لقد آن الأوان لأن نمتلك مركزاً وطنياً للبيانات.. بمستوى Tier IV.. ليكون درعاً رقمياً للوطن.. قبل أن يكون مخزناً للأنظمة والمعلومات.. مركز لا ينطفئ.. ولا يتأثر بانقطاعٍ.. أو عطلٍ.. أو عبثٍ سيبراني.. مركز يجسد مفهوم السيادة التقنية في أبهى معانيه..
إنّ فكرة إنشاء شركة حكومية تملك الدولة فيها النسبة الحاكمة.. ويشارك فيها القطاع الخاص بالخبرة والتمويل.. ليست من باب الرفاهية.. ولا التنظير.. بل هي ترجمة عملية لحاجةٍ وطنية واقعية.. فالحكومة تمتلك الأراضي المناسبة.. والخبرة المحلية متوافرة.. والبنية التحتية من الاتصالات.. والطاقة.. باتت مهيأة.. ولم يبق إلا الإرادة والرؤية.. لتجميع كل ذلك في كيانٍ موحد.. يحفظ للمال العام قيمته.. ويضاعف من الكفاءة والأمان..
وفي ظل ما تنفقه المؤسسات.. والوزارات.. والجامعات.. على تراخيص البرمجيات.. وشراء والصيانة والأجهزة كلٌ على حدة.. يصبح المشهد المالي متشابكاً ومكلفاً.. فلو جُمعت تلك المبالغ في قناةٍ واحدة.. تحت مظلةٍ وطنية موحدة.. لأمكن التفاوض مع الشركات العالمية من موقع القوة.. لا التبعية.. ولأمكن بناء بيئةٍ رقميةٍ متكاملة.. تتيح ترابط الأنظمة الحكومية ضمن قاعدة بياناتٍ وطنية واحدة.. بحيث تبقى لكل مؤسسة خصوصيتها في الوصول إلى بياناتها.. دون أن تفقد الدولة إشرافها العام على المنظومة بأكملها..
ولأن أي مشروعٍ كبير لا ينجح.. دون أن يحمل بعداً استثمارياً جاذباً.. فإن إنشاء هذا المركز بمواصفات Tier IV سيُحدث نقلة نوعية في مفهوم الاستثمار الرقمي.. إذ سيوفر للقطاع الخاص مركزاً آمناً عالي الجاهزية.. يضع فيه بياناته وخوادمه.. تحت حماية تقنية وأمنية متقدمة.. كما سيتيح للدولة عائداً مالياً مستداماً.. من خدمات الاستضافة.. والصيانة.. والتراخيص الموحدة.. والأهم أنه سيوفّر على الحكومة عشرات الملايين من الدنانير.. التي تُنفق سنوياً على شراء وإعادة التراخيص بشكلٍ متكرر.. وعلى صيانة الأجهزة المنفصلة.. وتعطلها المستمر.. فيتحول الهدر إلى استثمار.. والتكرار إلى كفاءة..
تخيّل مثلاً.. أن أنظمة البلديات.. والمالية.. والمعلومات الجغرافية.. والتعليم.. والصحة.. تعمل كلها من منصةٍ واحدة.. متصلةٍ بعمقٍ.. ومنفصلةٍ بأمان.. حينها فقط يمكن الحديث عن حكومة رقمية حقيقية.. لا عن مشروعاتٍ تجريبية.. تُنسى بتغير الإدارات..
ولأن الأمن السيبراني اليوم هو خط الدفاع الأول عن الدول.. فإن مركزاً وطنياً للبيانات بهذه المواصفات.. سيمنح الأردن قدرة سيادية في حماية معلوماته.. وسيوفر للقطاعين العام والخاص ملاذاً تقنياً آمناً.. تحت رقابة أمنية محكمة.. وإدارةٍ مهنية تستقطب الكفاءات الأردنية الرفيعة.. التي أثبتت حضورها في العالم..
بل أكثر من ذلك.. سيكون المركز مصدر دخلٍ واستثمار.. حين يتيح للقطاع الخاص استضافة بياناته وخدماته في بيئةٍ مؤمنة حكومياً.. بما يعزز الثقة.. ويجذب الشركات العالمية الباحثة عن مواقع آمنة ومستقرة في المنطقة..
ولكي لا تبقى الفكرة في حدود الأمنية.. فإن تصورها التنفيذي بسيط في جوهره.. معقّد في أثره.. تقوم الحكومة بتأسيس شركة وطنية جديدة.. تملك فيها الحصة الأكبر.. ويشاركها القطاع الخاص بالخبرة والتمويل.. على أن يكون لهذه الشركة حق إنشاء مركز بيانات وطني.. بمواصفات Tier IV في موقعٍ مركزي آمن.. وآخر احتياطي في منطقةٍ بديلة.. وتتولى الشركة إدارة جميع التراخيص والأنظمة الحكومية الموحدة.. وتزويد المؤسسات بما تحتاجه من خدماتٍ رقميةٍ.. عبر منصةٍ واحدةٍ متكاملة..
بهذا التصور.. تتحول النفقات المبعثرة إلى استثمارٍ منظم.. وتتحول الفوضى التقنية إلى منظومةٍ مؤسسيةٍ آمنة.. ويُعاد تعريف الأمن المعلوماتي ليصبح صناعةً وطنية.. لا عبئاً مالياً.. ولا مشروعاً مؤقتاً.. بل سيادة رقمية قائمة بذاتها..