ثلاثة مرتكزات رئيسية لضمان تطوير القضاء
طارق خميس أبو سليم
03-11-2025 09:46 PM
بعد مرور ما يقارب عشرين سنة على استقالتي من وظيفة كاتب رئيسي في وزارة العدل، حيث كنت آنذاك أعمل في محكمة استئناف عمّان، إلا أنني لازلت أستحضر تلك التجربة القصيرة في عمرها، الكبيرة في أثرها، إذ غرست في نفسي احترام العمل القضائي بوصفه رسالة قبل أن يكون وظيفة، ورسّخت لديّ القناعة بأنّ جودة العدالة تبدأ من بيئة القضاء نفسها، من أدواته وإجراءاته ومنظومته التشريعية والإدارية.
إن تطوير القضاء لا يُعد ترفًا إداريًا أو مطلبًا قطاعيًا، بل هو استحقاق وطني يمسّ جوهر الدولة الحديثة ومكانتها بين الأمم، فالقضاء ليس مجرد مرفق عام يؤدي وظيفة العدالة، بل هو مرآة لمدى تطور الدولة واحترامها لحقوق الإنسان وسيادة القانون، ومن هنا، فإن تحديث القضاء الأردني يحتاج إلى رؤية شاملة تقوم على ثلاثة مرتكزات رئيسية، تتمثل في تطوير البيئة التنظيمية للسلك القضائي، وتعزيز بناء القدرات البشرية، وتحديث أدوات الإدارة والتقاضي الذكي.
إن تطوير القضاء لا يمكن أن يتم بمعزل عن إعادة النظر في المنظومة التي تحكم المسار الوظيفي للقاضي، بدءاً من التعيين، والامتيازات الوظيفية، مروراً بالترقية، وفرص التدريب، والانتداب والإعارة، وانتهاء بالخدمة المقبولة للتقاعد؛ وفي هذا الإطار، فإنه من غير المنطقي أن تُحتسب مدة الإعارة ضمن المدة المؤهلة للترقية، بل يُكتفى باحتسابها لأغراض التقاعد فقط، وذلك للحيلولة دون تفويت فرص التقدّم أمام القضاة العاملين في الميدان، ومنع خلق نوع من الجمود داخل الهرم الوظيفي القضائي، فإعادة ضبط هذه المعادلة ضروري لتكريس مبدأ الجدارة والإنصاف، ولضمان أن تكون الترقية انعكاسًا للكفاءة والعطاء لا للمدة الزمنية وحدها، كما أنه من الأهمية بمكان، مراجعة منظومة الامتيازات الوظيفية، لما لذلك من أثر في تحقيق بيئة أكثر استقرارًا وتحفيزًا، تتناسب مع الأعباء الثقيلة والمسؤوليات الجسام التي يتحملها أعضاء السلك القضائي.
إن تطوير القضاء لا يكون بالنصوص التشريعية وحدها، بل بالكفاءات التي تطبقها، ومن هنا، فإن تمكين القضاة والعاملين في الجهاز القضائي يتطلب نظامًا تدريبيًا مستمرًا ومتخصصًا في القوانين المقارنة، والوسائل البديلة لفض المنازعات، وأساليب التقاضي باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، كما أن العدالة لا تتحقق فقط بجهد القاضي، بل بفاعلية الجهاز الإداري المساند له، الذي يجب أن يمتلك أدوات الإدارة القضائية الحديثة، وأن يُعامل باعتباره جزءًا من منظومة العدالة لا مجرد جهة مساندة، فكل إصلاح في الكادر القضائي يجب أن يقابله إصلاح في البنية الإدارية والتنظيمية، يتناسب مع حجم هذا الإصلاح.
إن التحول الرقمي الكامل في إجراءات وأساليب العمل القضائي، أصبح ضرورة ملحة، فالعصر الرقمي يفرض واقعًا جديدًا على آليات التقاضي وإدارة القضايا، لذا فقد أصبح تطوير البنية التحتية الإلكترونية للمحاكم، واعتماد إجراءات التقاضي عن بُعد، والأرشفة الذكية للملفات، من بين الركائز الأساسية لتسريع الفصل في القضايا وتحسين جودة العدالة، حيث أن تبني نموذج الإدارة القضائية الذكية لا يعني المساس بقدسية العمل القضائي، بل يهدف إلى دعم القاضي بوسائل فعّالة تُمكّنه من أداء رسالته بعدالة وسرعة وكفاءة.
إن تطوير القضاء لم يعد خياراً إصلاحياً بل التزاماً وطنياً يفرضه الواقع ومتطلبات الدولة الحديثة، فالقضاء هو المرفق الضامن لسيادة القانون وحماية الحقوق وتعزيز العدالة، من هنا فقد جاءت الرسالة الملكية السامية، خلال زيارة جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين إلى المجلس القضائي اليوم، لتؤكد هذا المعنى بوضوح، حيث شدّد جلالته على أن تطوير القضاء ركيزة أساسية في مسيرة الإصلاح الشامل، وأن استقلاله وعدالته أساس ثقة المواطن بالدولة، فهذه رسالة صريحة إلى أن تطوير القضاء يبدأ من التمكين الشامل لمنتسبيه، وإعادة هيكلة بيئته التنظيمية، والاستثمار الأمثل لكفاءاته، وصولاً إلى قضاء يليق بالأردن وتاريخه القضائي الراسخ.