التنمية الإقليمية المتوازنة في الأردن .. بين الواقع والطموح
د. حمد الكساسبة
05-11-2025 03:59 PM
ما تزال الفجوة التنموية بين العاصمة والمحافظات إحدى أبرز التحديات الاقتصادية والاجتماعية في الأردن، رغم الجهود الحكومية والزيارات الميدانية المتكررة. فمعدلات البطالة ما زالت مرتفعة عند نحو 21%، مع تفاوت واضح بين المحافظات، حيث تتجاوز النسبة في بعضها المعدل الوطني بكثير، ما يعكس استمرار تمركز فرص العمل والاستثمار في العاصمة والمناطق الوسطى على حساب الأطراف، ويؤكد الحاجة إلى إعادة النظر في السياسات التنموية بما يضمن توزيعاً أكثر عدلاً للفرص.
كما لا تزال نسب الفقر تعكس فجوة أعمق في توزيع الدخل والفرص، إذ تتجاوز على المستوى الوطني 22%، فيما تسجل بعض المحافظات نسباً أعلى بكثير من ذلك. وتتقاطع هذه المؤشرات مع ضعف الخدمات العامة في الأطراف، سواء في البنية التحتية أو القطاع الصحي، حيث يتركز أكثر من نصف المستشفيات والأسرّة في العاصمة، مقابل نقص واضح في المحافظات. هذه الاختلالات تجعل تحسين مستوى المعيشة في الأطراف شرطاً أساسياً لأي تنمية وطنية حقيقية، خاصة أن استمرارها يعمّق التفاوت الاجتماعي ويحدّ من العدالة الاقتصادية.
ورغم الاجتماعات والزيارات الميدانية المتكررة التي عقدتها الحكومة في مختلف المحافظات، فإن مؤشرات الفقر والبطالة والنمو الاقتصادي ما زالت تسير بوتيرة بطيئة لا تعكس حجم الجهد المعلن. فبعد سنوات من البرامج والمبادرات، لم تشهد المحافظات تحسناً ملموساً في بيئتها الاستثمارية أو في فرص التشغيل والخدمات الأساسية. وهذا الواقع يشير إلى أن التحدي لم يعد في النوايا أو الخطط، بل في التنفيذ الفعّال وربط القرار بالنتائج، بحيث تتجاوز التنمية حدود التصريحات إلى أثر حقيقي في حياة المواطنين.
إن التنمية الإقليمية المتوازنة ليست مجرد شعار اقتصادي، بل ركيزة أساسية للأمن الاجتماعي والاستقرار الوطني. فهي تضمن توزيعاً عادلاً لعوائد النمو وتمنع تركز الفقر والبطالة في مناطق محددة، كما تُسهم في الحد من النزوح الداخلي نحو العاصمة، وتخلق فرصاً إنتاجية محلية تُعزز مناعة الاقتصاد الوطني وقدرته على تحقيق تنمية مستدامة. إن بناء تنمية متوازنة بين المحافظات هو المدخل الحقيقي لتحقيق العدالة الاجتماعية وتعزيز الاستقرار الاقتصادي، وضمان مشاركة جميع الأقاليم في صناعة النمو الوطني.
غير أن أحد أبرز العوائق أمام التنمية المحلية يتمثل في ضعف اللامركزية المالية والإدارية. فالمجالس المحلية ما زالت تفتقر إلى الصلاحيات الكافية لإدارة الموارد أو توجيه الاستثمارات بما يتناسب مع أولويات كل محافظة. وبدون تمكين حقيقي لهذه المجالس، ستبقى المحافظات معتمدة على المركز في معظم قراراتها، مما يحد من فاعلية التخطيط المحلي ويؤخر أثره التنموي.
ولا يمكن تحقيق تنمية متوازنة دون نظام واضح للمساءلة التنموية، يربط بين حجم الإنفاق المحلي ومؤشرات الأداء في كل محافظة، مثل معدلات التشغيل، وجودة الخدمات، ونمو الناتج المحلي للمحافظة. فالمساءلة القائمة على النتائج هي الضمانة الحقيقية لاستخدام الموارد بكفاءة وتحقيق أثر ملموس في حياة المواطنين.
كما أن فجوة الخدمات التعليمية والصحية بين العاصمة والأطراف ما تزال تشكّل أحد أهم أسباب التفاوت التنموي، إذ تؤدي إلى ضعف نوعية رأس المال البشري في المحافظات، وتحدّ من قدرتها على جذب الاستثمارات والكفاءات. ومن ثمّ، فإن تطوير البنية التعليمية والصحية في الأطراف ليس مسألة خدمية فحسب، بل أداة استراتيجية لرفع الإنتاجية وتعزيز العدالة الاجتماعية.
وفي هذا السياق، تمثل رؤية التحديث الاقتصادي 2022–2033 الإطار الوطني الأشمل لتحقيق نمو سنوي مستهدف يقارب 5.5%، وجذب استثمارات تفوق 41 مليار دينار، وتوليد نحو مليون فرصة عمل. إلا أن نجاح هذه الرؤية لا يُقاس بحجم الأرقام الكلية فحسب، بل بقدرتها على توزيع النمو جغرافياً، وتحويل المحافظات إلى مراكز إنتاج واستثمار لا إلى مناطق انتظار للدعم الحكومي. وحتى الآن، ما تزال المشاريع الكبرى تتركز في مناطق محدودة، ما يستدعي ربط الحوافز الاستثمارية بتشغيل فعلي في المحافظات الأقل حظاً لضمان تحقيق العدالة الإقليمية في توزيع عوائد التنمية.
ومع اقتراب تقديم موازنة عام 2026، تبرز الحاجة إلى إعادة هيكلة أولويات الإنفاق التنموي بما ينسجم مع العدالة الإقليمية. فالإنفاق الرأسمالي يجب أن يوجَّه نحو المشاريع الإنتاجية والخدمات الحيوية في المحافظات، وأن تُبنى الموازنات المحلية على أساس الاحتياجات التنموية الفعلية لكل محافظة لا على معادلات إنفاق موحدة. كما يجب أن تُدمج التنمية الإقليمية المتوازنة ضمن البرنامج التنفيذي لرؤية التحديث الاقتصادي كمحور عابر للقطاعات، لضمان استدامة العدالة التنموية وتوسيع قاعدة النمو الاقتصادي والاجتماعي.
ولتحقيق ذلك، لا بد من إدارة المال العام وفق مبدأ “العائد التنموي على كل دينار يُنفق”، بحيث يُقاس النجاح بما يحققه الإنفاق من أثر في التشغيل وتحسين الخدمات، لا بحجم المخصصات المالية. فكل دينار يُخصّص للمحافظات يجب أن يولّد قيمة اقتصادية ملموسة — بفرصة عمل، أو بخدمة عامة أفضل، أو ببنية تحتية محفزة للنشاط الإنتاجي. ومن هنا، يصبح الإنفاق أداة استثمار وطني لا مجرد بند محاسبي، يعيد توزيع النمو والفرص بعدالة وكفاءة بين مختلف المناطق، ويعزّز الثقة العامة بالسياسات الاقتصادية.
إن الطريق نحو تنمية إقليمية متوازنة يتطلّب تحوّلاً في فلسفة الإدارة العامة من المركزية إلى التمكين المحلي، ومن التركيز على الإنفاق إلى التركيز على الأثر. ومع اقتراب تقديم موازنة عام 2026، ستُشكّل هذه الموازنة اختبارًا حقيقيًا لجدّية الحكومة في ترجمة الرؤية الاقتصادية إلى سياسات ملموسة تعيد توزيع النمو والفرص بعدالة بين المحافظات، بحيث يشعر المواطن بأن التنمية لم تعد شعاراً، بل تحولت إلى تحسن فعلي في فرص العمل ومستوى المعيشة وجودة الخدمات. والمطلوب اليوم ليس زيادة النفقات، بل إعادة هندستها لتصبح التنمية الإقليمية مقياسًا رئيسيًا لتقييم الأداء الحكومي، لا مجرد بند في الخطط السنوية.