الحوكمة الرشيقة في التعليم .. من الرؤية إلى التطبيق
د. أميرة يوسف ظاهر
08-11-2025 11:28 AM
في زمن تتسارع فيه التحولات الرقمية وتتراجع فيه مركزية الموارد المادية أمام هيمنة المعرفة، يبرز البيان الختامي للمؤتمر العلمي الدولي للجمعية الأردنية للعلوم التربوية كوثيقة فكرية رصينة تفتح أفقا جديدا أمام التجديد التربوي العربي، لم يكن البيان توصيفا أكاديميا أو تجميعا لتوصيات، وإنما خريطة تحول تعيد رسم العلاقة بين التعليم والمجتمع والاقتصاد المعرفي؛ إذ وضع الذكاء الاصطناعي في قلب العملية التعليمية ليس باعتباره تقنية مساعدة، بل منصة استراتيجية لبناء ثقافة تربوية جديدة قادرة على التفاعل الواعي مع المستقبل.
التحول المنشود يتجاوز منطق الإصلاح إلى منطق التحول الجوهري، إذ أنه لا ينظر إلى التعليم كقطاع خدمي يستهلك الموارد، بل كقطاع قيادي يصنعها، إنه انتقال من إدارة التعليم إلى قيادته، من المدرسة التقليدية إلى المجتمع التعلمي الذكي الذي يتنفس الابتكار، وهذا التحول لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال أنظمة حوكمة مرنة تستوعب التغير، وتستجيب للتحديات دون أن تفقد بوصلتها، أي من خلال الحوكمة الرشيقة التي تمكن المؤسسات التعليمية من اتخاذ قرارات سريعة مبنية على الأدلة، وتحويل الرؤى إلى ممارسات يومية قابلة للقياس والتطوير.
تأتي الحوكمة الرشيقة لتشكل الإطار التنفيذي لرؤية التعليم، فهي الجسر الذي يعبر بالتوصيات من الورق إلى الواقع، فتقوم على نهج تكراري في تطوير المناهج وأساليب التدريس، والاعتماد على التحسين المستمر والتغذية الراجعة من الميدان. كما تمنح القيادات المدرسية صلاحيات أوسع لاتخاذ القرار في الوقت المناسب، وتعيد توزيع السلطة بطريقة تمكن الفرق التعليمية من الإبداع ضمن أطر استراتيجية واضحة. إن إنشاء هياكل تنظيمية مرنة تستجيب للمتغيرات التقنية والمجتمعية هو ما يجعل المؤسسة التعليمية حية، تتعلم وتطور ذاتها باستمرار.
البيان بدوره قدم إضافات نوعية يمكن للحكومة الرشيقة أن تفعلها بفاعلية أكبر، فالميثاق الأخلاقي للمهنة التربوية يمكن أن يترجم إلى آليات تقييم مرنة تركز على النتائج لا الإجراءات، والقيادة المدرسية التحويلية تحتاج إلى بيئة تتيح لها إدارة التغيير لا مجرد التكيف معه، والأبحاث التطبيقية في الذكاء الاصطناعي التوليدي تحتاج إلى أطر حوكمة تربط البحث بالممارسة في دورة تطوير مستمرة لا تعرف الجمود.
وتتجلى التطبيقات العملية لهذا الفكر في نماذج محددة قابلة للتنفيذ، منها المنصات التدريبية الذكية المصممة وفق نهج التطوير التكراري الذي يواكب احتياجات المعلمين، واستخدام تحليلات البيانات التعليمية لاتخاذ قرارات تربوية مبنية على أدلة، وإنشاء مراكز تميز رقمية تجمع بين البحث والتطبيق في بيئة واحدة. أما مدارس الابتكار التي دعا إليها البيان فهي النموذج الطبيعي لتطبيق الحوكمة الرشيقة، إذ تتحول من مؤسسات تلقين إلى مختبرات فكرية تدمج الذكاء الاصطناعي بالقيم، ويصبح فيها المعلم قائد فكر، والطالب شريكا في تصميم تجربته التعليمية.
في هذا الإطار تتجلى التربية كقوة ناعمة تتجاوز حدود الأكاديمية إلى ميادين العدالة الاجتماعية وجودة الحياة والكرامة الإنسانية، فالحوكمة الرشيقة تجعل هذا التوازن ممكنا حين تدمج بين الابتكار التقني والقيم الإنسانية، وتتيح للقيادات النسائية أدوارا متقدمة في صناعة القرار التربوي ضمن منظومات مرنة تحتفي بالتنوع والاختلاف. ومع ذلك لا يكتمل هذا التحول دون شراكات استراتيجية تجمع بين القطاع التربوي والخاص والمجتمع المدني في إطار من الثقة والشفافية والمساءلة المشتركة.
إن ما يقدمه البيان ليس دعوة للتطوير فحسب، بل تصور لمستقبل تصاغ فيه التربية بوصفها أداة للنهضة المجتمعية، ويأتي تطبيق الحوكمة الرشيقة ليجعل من هذا التصور واقعا ملموسا، فالمؤسسات التي تتعلم بسرعة وتتكيف بمرونة هي الأقدر على الاستمرار في عالم يتغير كل يوم، وعندما تصبح المدرسة مركزا للإنتاج المعرفي، والمعلم صانعا للعقول لا ناقلا للمعلومات، والطالب شريكا في صياغة تجربته، نكون قد بدأنا حقبة جديدة من الفكر التربوي العربي.
التربية في هذا السياق ليست استجابة للواقع بل صناعة للمستقبل، والحوكمة الرشيقة هي أداتها الأذكى لتحقيق ذلك، إنها تمنح التعليم العربي القدرة على أن يكون سباقا لا تابعا، وأن يخرج للمجتمع مواطنا عالميا بجذور عربية، يفكر بعمق ويبدع بمسؤولية، ويتعامل مع الثورة الصناعية الرابعة بوعي إنساني يوازن بين التقنية والقيم، هكذا تتحول التوصيات إلى أثر، والرؤية إلى ممارسة، والتعليم إلى مشروع حضاري يعيد تشكيل وعي الأمة بمستقبلها.