هناك لحظاتٌ يتوقّف فيها الفعل السياسي عن كونه واجبًا، ويصبح إحساسًا. تمرّ بعينيك صورة، أو مقطعٌ قصير، وتكتشف أنك لم تعُد تنظر إلى السياسي بعين الناخب، بل بعينٍ أخرى؛ خليط من الإعجاب والدهشة والانجذاب. تتوقف، لا خجلًا بل اندهاشًا من هذا التداخل بين الفكر والإحساس. وتقول في نفسك: هو إعجابٌ بجرأته أو بصدقه لا أكثر. لكن قلبك يعرف الحقيقة.
في الأسابيع الماضية، أشعل عمدة نيويورك الجديد، زهران ممداني، هذا النوع الغريب من الانجذاب السياسي الأخلاقي. بكمّيه المرفوعين وصوته الهادئ ونظرته الواثقة، بدا كأنه شاعرٌ يتحدث عن العدالة لا موظفٌ يدير مدينة. لكن جاذبيته لا تتوقف عند حضوره أمام الكاميرا، بل تمتدّ إلى ما يدافع عنه: قيم المساواة، والعدالة الاجتماعية، وكرامة المهاجرين، واحترام التنوع الإنساني.
يمثّل ممداني جيلًا جديدًا من أبناء “الجيل زد”، الذين وُلدوا في قلب الشاشات لكنهم لم يفقدوا قدرتهم على الإحساس. جيلٌ يعرف كيف يستخدم أدوات الإعلام الحديثة لا ليصنع مجدًا شخصيًا، بل ليعيد تعريف القيادة ذاتها. قيادتهم لا تُقاس بالموقع أو المنصب، بل بقدرتهم على تحويل القيم الإنسانية إلى خطابٍ سياسيٍّ فعّال.
إن صعود ممداني في هذا التوقيت ليس حدثًا محليًا فحسب؛ إنه إشارة رمزية إلى تحوّلٍ عالميٍّ أعمق. فبعد سنواتٍ من الصخب والادعاء، وبعد حربٍ وحشيةٍ في غزة هزّت الضمير الإنساني، بدا أن العالم عطِشٌ إلى وجوهٍ تقول الحقيقة ببساطة، وإلى سياسيين لا يخجلون من التعاطف. فنجاح ممداني هو، بطريقةٍ ما، انتصارٌ أخلاقي للإنسانية المتعبة من الخطاب الذي يبرر القسوة باسم الواقعية، ومن اللغة التي تشيطن اللاجئين والمهاجرين بدل أن تراهم كبشرٍ يستحقون الحياة.
إنه انتصارٌ لقيمٍ كثيرة ظلت تُهمَّش طويلًا: التعددية، والرحمة، والجرأة على قول “لا” في وجه المعتاد. لذلك لا يمكن فهم “كاريزما ممداني” كمسألة شكلية، بل كترجمةٍ لجمالٍ من نوعٍ آخر؛ جمال الفكرة حين تجد من يجسدها بصدقٍ وهدوء.
نعيش في زمنٍ تتحوّل فيه السياسة إلى صورة، والصورة إلى عاطفة. وكلّ نبرةٍ أو نظرةٍ قد تتحوّل إلى خطابٍ سياسيٍّ عابرٍ للحدود. ممداني يدرك ذلك، ويستخدمه دون أن يتورّط فيه. لا يرفع صوته، بل يترك فكرته تتكلم عنه. صمته يحمل طاقة، وبساطته تحمل ثقة. وما نراه جاذبيةً أو وسامةً هو في جوهره انسجامٌ بين الشكل والمبدأ.
ربما لهذا السبب شعر كثيرون بنوعٍ من الأمل وهم يتابعون فوزه. لأنّ صورته لم تكن صورة السياسي الناجح فقط، بل صورة الإنسان الذي يُعيد للسياسة معناها البشري.
لم يعُد السؤال: هل نثق به؟ بل: هل يمكن أن تعود السياسة لتشبهنا؟
ربما الجواب يبدأ من هنا، من جيلٍ جديدٍ يغازلنا لا بوعدٍ انتخابي، بل بصدقٍ إنسانيٍّ يعيد للسياسة ملامحها الأولى