كان الضوء يوماً يلاحقهم أينما تحركوا.. وكانت الكلمات تسبق خطاهم.. كما يسبق الظل صاحبه عند غروب الشمس.. وكانت الأعين تترقب حضورهم.. وكأنهم جزء من مشهد لا يكتمل إلا بهم.. ذلك حين كانوا على الكراسي.. يحملون هم القرار.. وأسرار الدولة تنام تحت رؤوسهم كل ليلة..
لكن حين تصبح الخسارة أكبر من احتمال الصدر.. وحين يتحول الصبر إلى مساحة ضيقة.. لا تتسع لخطوة جديدة.. فيأتي من يزيد العبء بدل أن يرفعه.. كمن يزيد الهم فوق الهم.. ويضيف النار فوق الرماد الذي لم يبرد بعد.. نعلم أن هناك مَن يحاول العودة إلى الضوء لا بعملٍ جديد.. بل بكلمة تُقال في غير مكانها..
وحين يحاول البعض إصلاح خطأ بخطأ أكبر منه.. أو يحاول معالجة أزمةٍ.. بقرار يزيد النار اشتعالاً.. هنا تبدأ الحكاية التي لا نحب أن نراها تتكرر.. حكاية مسؤول يغادر منصبه.. ثم لا يغادر المنبر.. ولا يغادر رغبته في أن يظل حديث الناس.. ولو على حساب ما يجب أن يُصان..
ظهر البودكاست.. فظهروا معه.. وكأن الزمن سحب منهم شيئاً يريدون استعادته.. وكأنهم يخشون أن تمضي الأيام وتضعهم في الهامش.. فجلسوا أمام الميكروفونات.. وانفتح الكلام.. الذي لا يجوز أن ينفتح.. وتدفقت الأسرار.. التي كانت يوماً محمية بثقل المنصب.. ومسؤولية القسم..
الإعلامي أمامهم يبدو هادئاً.. مبتسماً.. حاضناً للحوار.. لكنه يعرف أين ومتى يضع السؤال.. وأين ومتى يترك الصمت يتمدد مثل فخٍ ناعم الملمس.. فيتكلم الضيف أكثر مما يجب.. ويقول ما لا يجوز قوله.. ظناً منه.. أن المكان آمن.. وأن ما مر قد انتهى.. بينما الحقيقة.. أن كل كلمة هي باب مفتوح للمتربص.. للذي ينتظر نصف جملة.. ليصنع منها حرباً كاملة..
والمتربصون كثر.. يصطادون في الماء العكر.. فما بالك باصطياد الكلمة من فم مسؤول؟!.. ويُتقنون اجتزاء الصوت.. كما تُجتزأ اللحظة من عمر وطن.. فإذا بالمشهد يتحول إلى فوضى رأي عام.. واتهامات.. وتأويلات.. وتداول لا ينتهي..
أقولها بصوت الوطن لا بصوت الكاتب.. توقفوا.. فالأردن لا يحتمل زخات الكلام العابرة.. وأقولها بهدوء يوجع أكثر من الصراخ.. ترى المقبرة مش ناقصها ميتين.. لأن الوطن لا يحتمل هذا العبء.. ولا هذا النزيف الناعم.. الذي يبدأ من كلمة.. ثم يكبر حتى يصبح شقاً في جدار الثقة..
إلى المسؤولين الذين غادروا المواقع الرفيعة.. لا تركضوا خلف الضوء الذي انطفأ.. فالضوء الحقيقي.. هو ما تركتم من أثر.. لا ما تقولونه الآن.. وما عرفه الناس عنكم حين كنتم في مواقع العمل.. أهم من محاولات تذكيرهم بكم بعد الرحيل.. ولستم بحاجة إلى النجومية.. بعد أن حملتم اسم الدولة على أكتافكم يوماً..
وإلى بعض الإعلاميين.. لا تجعلوا من المنبر سلماً يصعد عليه مَن خفت حضوره.. ولا تجعلوا من السؤال.. شبكة تُرمى لاصطياد زلة من فم رجل.. كان ذات يوم حارساً لسِر الوطن.. فليس كل كشف بطولة.. وليس كل معلومة حقاً للنشر.. والوطن أكبر من مشاهداتكم..
إننا في زمن القص واللصق.. في زمن تتحول فيه نصف كلمة إلى قضية.. وزلة لسان إلى ساحة اشتباك.. وجملة مجتزأة إلى فتنة تنتشر مثل نار صيفٍ ماطر..
الوطن متعب بما يكفي.. ومُهاجم من جهاتٍ كثيرة..
صدقوني.. المقبرة مش ناقصها ميتين..