لماذا نكره التلفزيون الأردني؟
د. سعيد المومني
11-11-2025 07:33 PM
ليس الجدل الدائر اليوم حول تعيين مذيعين جدد في التلفزيون الأردني مجرد نقاش مهني أو إداري عابر؛ ما نراه هو صراع أعمق يرتبط بسؤال الهوية والذاكرة والتمثيل الرمزي للدولة ذاتها. فالتلفزيون في الأردن لم يكن يوماً مجرد وسيلة إعلام، بل كان ولا يزال أحد الرموز الأكثر التصاقاً بفكرة البيت الأردني، بلغته ووجدانه ومخيلته الجماعية.
هذه الرمزية هي التي تجعل أي حركة صغيرة داخله تتضخم إلى نقاش وطني عام، يمتد من المقاهي وصفحات فيسبوك إلى تصريحات السياسيين والكتاب الذين يظهرون عند الطلب. ليس لأن المذيعين الجدد يشكلون تهديداً، بل لأن الشاشة هنا ليست شاشة فقط؛ إنها ذاكرة وهيبة، وصورة لدور الدولة في تشكيل الوعي العام.
كان التلفزيون الأردني، لعقود، غرفة الجلوس الوطنية؛ الضوء ذاته في كل بيت، والصوت ذاته الذي يعلن بداية المساء. من نشرة الثامنة، إلى الفنون الشعبية والبرامج الثقافية، إلى الأغاني الوطنية التي كانت تشبه الأرض أكثر مما تشبه الأغنية.
ولذلك لم يكن المذيع مجرد قارئ أخبار، بل كان وجه البلد. كان الناس ينتظرون ظهور سوسن تفاحة، غالب الحديدي، عفاف القضماني، عساف الشوبكي، إخلاص يخلف، فخري العكور، إيمان ظاظا وغيرهم؛ لا بوصفهم شخصيات إعلامية فقط، بل بوصفهم تجسيداً لملامح الدولة وذوق المجتمع.
من هذه الشاشة خرجت أسماء واصلت حضورها عربياً، وبعضها أصبح وزراء ومسؤولين وصانعي رأي. التلفزيون لم يكن منبراً يقدم الوجوه، بل مؤسسة تُنتجها وتمنحها لغة الحضور.
لذلك فإن الغضب الدائر اليوم ليس غضباً على “وجوه جديدة”، بل غضب على تحوّل الصورة. هو في عمقه غضب على الطريقة التي يعامل بها الوطن نفسه: نغضب منه لأنه لم يعد يشبهنا، أو لأننا لم نعد نعرف أنفسنا فيه.
ورغم هذا الحنين، لم يتوقف الناس عن السخرية من التلفزيون. نحبّه لأنه يشبهنا، ونسخر منه .. لأنه يشبهنا أكثر مما نحتمل.
نصفه بـ"تلفزيون الميرامية"، نرى أخباره باهتة، وديكور استوديوهاته من زمن آخر. لكننا، في اللحظة ذاتها، ندافع عنه لأنه يحمل شيئاً من البيت القديم الذي نخشى أن نضيعه.
نحن نرفض أن يغادر التلفزيون صورته القديمة، ونرفض أيضاً أن يبقى كما هو. نريده حديثاً بلا استعراض، وتقليدياً بلا جمود. وهذه ليست أزمة شاشة؛ إنها أزمة مجتمع يبحث عن صورته.
لكن هناك حقيقة تتجنبها النقاشات لأنها صادمة:
ميزانية الإذاعة والتلفزيون الأردني تفوق ميزانية وزارة الداخلية.
الوزارة التي يمكن الاتفاق أو الاختلاف مع سياساتها، لكن لا يمكن إنكار أنها أدّت أدواراً مؤسسية واضحة في إدارة الأزمات وصياغة الاستقرار.
في المقابل، بقي التلفزيون رغم الإنفاق خارج الفعل العام؛ تحول في نظر الناس إلى ما يشبه منصة بطالة مقنعة، ومساحة للتندر، وتجسيد مكثف لخلل إداري أعمق.
هنا تحديداً ينكشف الخلل:
مؤسسة تملك التمويل.. ولا تملك الدور، ووزارة تُنتقد يومياً .. لكنها تملك الوظيفة والتأثير.
ذلك لأن التلفزيون لا يعرف إلى اليوم ما هي وظيفته:
هل هو تمثيل للدولة؟
أم مرآة للمجتمع؟
أم لاعب في سوق إعلامي تنافسي؟
والمعضلة الأكبر:
هل يمكن لهذه الأدوار الثلاثة أن تجتمع أصلاً، في بلد لا تعكس فيه الدولة المجتمع كما يريد، ولا يرى المجتمع نفسه كما تقدمه الدولة؟
هنا يصبح التلفزيون معلقاً بين صورتين:
صورة قديمة ترفض أن تُدفن، وصورة جديدة لم تولد بعد.
إن ما نراه اليوم من سخرية أو غضب أو حنين ليس موجهاً للتلفزيون، بل للوطن الذي تغيّر ولم يقل لنا كيف يجب أن نقرأ هذا التغيير. الوطن الذي نريد أن نحبّه كما كان، ونريده أن يصبح كما يجب، ولا نملك الأدوات لتحقيق أي منهما.
السؤال لم يعد: من يقدّم النشرة؟
السؤال أصبح:
أي أردن نريد أن نرى على هذه الشاشة؟
أردن الأمس؟
أردن الغد؟
أم ذلك الأردن الذي لم يولد بعد؟..