من الاستقلال إلى الاستغلال .. آن أوان حلّ الهيئات
محمود الدباس - أبو الليث
13-11-2025 09:34 AM
إذا عدنا للبدايات.. فقد كانت الفكرة نبيلة.. والغاية إصلاحية.. فالهيئات المستقلة وشراء الخدمات وُلِدت في العالم المتقدم.. لتكون أدوات مرنة في يد الدولة.. تُسعفها حين تضيق القوانين.. وتُعينها حين تحتاج إلى خبرة متخصصة لا تتوافر في موظفيها الدائمين.
وكالعادة في إضافة النكهة الاردنية.. نجد أن النية الحسنة وحدها لا تكفي.. حين تُختطف الفكرة.. وتتحول الأداة إلى بابٍ خلفي للعبث الإداري.. والإنفاق غير المنضبط.. والمحاصصة المقنّعة بقناع القانون.
فالهيئات المستقلة في أصلها ممارسة محترمة.. لا غبار عليها حين تُنشأ لحاجة حقيقية.. فالبنك المركزي.. وهيئة الأوراق المالية.. وهيئة تنظيم قطاع الطاقة.. والاتصالات.. وهيئة مكافحة الفساد.. كلها نماذج لهيئات لا يمكن للدولة.. أن تدير توازنها الاقتصادي والرقابي من دونها.. فهي صمامات الأمان.. التي تحافظ على حياد القرار الفني.. بعيداً عن تقلبات السياسة ومزاج الوزراء والسباسيين وأصحاب النفوذ.
لكنها حين تُصبح وسيلة لتوزيع المناصب والاعطيات.. وتكرار المهام التي تقوم بها الوزارات.. وحين تُبنى لها مبانٍ فخمة.. وتؤثث بأثاث فاره لا تُبررها المخرجات.. وتغيب عنها المساءلة لنيلها صفة الاستقلالية.. فهنا لا تعود مستقلة.. بل منعزلة عن المنطق.. والمصلحة العامة.. وبعيدة عن المساءلة.. ونلمس علوها فوق القانون.
أما شراء الخدمات -وهنا سأتحمل ما سأناله من غضبٍ ومسبات- فقد تحولت من وسيلة مؤقتة لتغطية حاجة تخصصية.. إلى نظام موازٍ للتعيين الرسمي.. يُستخدم لتمرير التنفيعات.. وتجاوز الخدمة المدنية.. بل أصبح ملاذاً آمناً لمن يريد موقعاً دون مسابقة.. أو مساءلة.
فكيف يُعقل.. أن يُشترى خِدمةً لعام.. ثم يمكث صاحبها خمس.. أو عشر سنوات؟!.. ومنهم من يتم تثبيته.. ومنهم مَن ينتظر.. دون كللٍ ولا ملل.. فكيف تُبرَر الاستعانة المؤقتة.. التي أصبحت إقامة دائمة؟!.. إن منطق شراء الخدمات يفقد شرعيته.. حين تتحول المرونة إلى فوضى.. وحين يُصبح الاستثناء هو القاعدة.. ويصبح حقاً مكتسباً.
فعن أي إصلاحٍ تتحدثون.. وعن أي تنفيذٍ لرؤى سيد البلاد تتغنون.. وأنتم توغلون في تثبيت وتدعيم ملفاتٍ.. أصبحت واضحة وضوح الشمس.. لا كشبهات فسادٍ بعد الآن.. بل كفسادٍ صريحٍ لا لبس فيه.
لقد آن الأوان أن يُعاد النظر في هذه الفوضى المنظمة.. وأن تُجرى مراجعة جريئة وشجاعة.. بلا مجاملة ولا مواربة.
فحلّ.. أو دمج الهيئات.. التي لا وجود لمثيلاتها في الممارسات الدولية الرصينة.. أصبح ضرورة.. لا خياراً.
والتخلّص من عقود شراء الخدمات.. التي تحوّلت إلى ممر خلفي للتعيين.. هو استحقاق أخلاقي ومالي.
فالأموال العامة ليست تركة يُقسمها المتنفذون.. ولا المكافآت تُمنح على المقاس.. ويتوارثها مجموعة اصبح الجميع يراها رأي العين.
إن الدولة التي تسعى إلى الإصلاح.. وتتغنى صبح مساءٍ بالتقدم فيه.. لا تُجامل في مَواطن الخلل.. ولا تبرر استمرار عبء إداري ومالي يرهق الخزينة.. ويُضعف الثقة.. وإن كل مسؤول يدافع عن هيئة غير منتجة.. أو عقدٍ غير مبرر.. إنما يدافع عن امتيازٍ.. لا عن مصلحة وطن.. فيصبح الحديث تشدقاً مقيت مكشوف.
فالإصلاح الحقيقي.. لا يبدأ من سنّ القوانين التي تنخرها الثغرات.. وتعطلها الاستثناءات.. بل من كسر حاجز الخوف من مواجهة الترهل والعبث.. ومن القول الصادق.. بأن ما وُجد ليتطور.. لا يجوز أن يُترك ليتضخم.. لأن الكيان الذي لا يُراجع نفسه.. ويقوّم مَسلكه.. سيُراجعه المواطنون ذات يوم.. لكن بثمنٍ أكبر بكثير.