شراكات التعليم المهني والقطاع الخاص كمسار لإعادة بناء سوق العمل
د. أميرة يوسف ظاهر
18-11-2025 01:48 AM
لم يعد التعليم المهني في الأردن قادرا على الاكتفاء بدوره التقليدي، فقد أصبحت الحاجة اليوم أكثر إلحاحا لإعادة تشكيل العلاقة بين المؤسسات التعليمية والقطاعات الاقتصادية، ليس بوصفها خطوة إصلاحية بل كضرورة تفرضها مؤشرات بطالة مرتفعة وتراجع واضح في مهارات التمكن العملي لدى الشباب، فالسوق الأردني بكل تحدياته لم يعد يبحث عن الشهادات بقدر ما يحتاج أشخاصا قادرين على دخول خطوط الإنتاج والتقنية والخدمات دون فترة تأقلم طويلة أو تدريب مكلف، بينما يشعر آلاف الخريجين بأن سنوات تعليمهم لم تفتح لهم بابا واحدا للاستقرار المهني أو الاجتماعي.
هذا التناقض بين وفرة الخريجين وندرة المهارات جعل كثيرا من الشركات تصرح بأن المشكلة ليست في نقص الوظائف؛ لكنها في عدم مواءمة المهارات لاحتياجاتها، هنا تحديدا تتقدم فكرة الشراكة بين التعليم المهني والقطاع الخاص كأحد أكثر المسارات واقعية وقابلية للتنفيذ في الأردن، خصوصا بعد ظهور مبادرات محلية أثبتت إمكانية ردم جزء من فجوة التأهيل، فقد شهدت السنوات الأخيرة تعاونا متزايدا بين مؤسسة التدريب المهني وعدد من الشركات في قطاعات الضيافة والصناعات الهندسية والطاقة، كما أسهمت برامج دولية مثل مبادرات اليونسكو لتطوير التعليم الفني، وبرنامج جيل جاهز بالشراكة مع اليونيسف في إدخال نماذج تدريبية عملية تستهدف رفع جاهزية الشباب للوظائف التقنية والمهنية، هذه التجارب وإن كانت متباينة النتائج، تشير إلى قابلية الفكرة للتوسع وتدل على وجود أرضية يمكن البناء عليها.
لكن تطوير نموذج أردني حقيقي للشراكة لا يعني استنساخ تجارب جاهزة من دول أخرى، فالسياق الاقتصادي الأردني بموارده وإمكاناته، يحتاج نموذجا مرنا يربط الطالب ببيئة العمل منذ سنوات الدراسة الأولى، ويمنح الشركات دورا مباشرا في تصميم وتقييم البرامج التدريبية، دون أن يتحول التعليم إلى ذراع تشغيلي للشركات فحسب، فالمطلوب علاقة متوازنة يتشارك فيها الطرفان المسؤولية: التعليم يقدم الإطار المعرفي الصلب، والقطاع الخاص يقدم التطبيق العملي الموجه وفق احتياجات حقيقية وليست افتراضية.
ولكي يتحقق هذا التوازن يصبح من الضروري أن تبنى المناهج ضمن خطوط إنتاج معرفية متحركة، تستجيب لتغيرات تكنولوجية سريعة في مجالات الطاقة المتجددة، والأمن السيبراني والشبكات والسياحة المتقدمة والصناعات الخفيفة. كما يجب أن يعاد تعريف التدريب العملي بحيث يكون رحلة تعلم مستمرة لا مهمة شكلية، رحلة تتضمن خطط متابعة وتقييمات دورية وبطاقات أداء واضحة لما يجب أن يكتسبه الطالب في كل مرحلة.
غير أن الطريق إلى هذه الشراكة ليس سهلا فالتحديات التمويلية ما تزال عائقا أمام تحديث البنية التحتية في الكليات التقنية، والتحديات التنظيمية تتطلب تشريعات تحمي حقوق الأطراف وتضمن عدم تحول التدريب إلى قوة عمل منخفضة الأجر، أما التحدي الثقافي فيحتاج إلى جهد طويل لتغيير الصورة النمطية التي تحاصر التعليم المهني وتجعله خيارا اضطراريا لا خيارا وعيا، ومن دون معالجة هذه التحديات ستبقى الشراكات مبادرات متفرقة لا مشروعا وطنيا متكاملا.
ورغم هذه الصعوبات فإن الاستثمار في الشراكات بين التعليم المهني والقطاع الخاص هو أحد المسارات القليلة القادرة على إحداث تغيير ملموس في واقع الشباب الأردني، فهي شراكات قادرة على خفض البطالة عبر إعداد كوادر تمتلك مهارات قابلة للتشغيل الفوري، وعلى رفع إنتاجية الشركات المحلية التي تعاني من نقص الكفاءات، وعلى تعزيز ثقة الشباب بأن التعليم يمكن أن يكون طريقا إلى العمل لا مجرد شهادة، إن بناء نموذج أردني مستدام للتعليم المهني ليس مجرد تطوير لقطاع تعليمي، لكن إعادة صياغة لعلاقة الشباب بسوق العمل، وإحياء لقيمة المهارة في مجتمع يمر بتحولات اقتصادية واجتماعية متسارعة، وإذا أحسن تصميم هذه الشراكات ومأسستها، فإنها ستصبح أحد أعمدة النهضة الاقتصادية والاجتماعية في الأردن، لا مجرد حل مرحلي لمشكلة البطالة.