تتوالى ظواهر غريبة تحت قبّة العبدلي منذ بداية الدورة العادية الحالية لمجلس النواب، رغم أنها الدورة الثانية للمجلس والتي يفترض معها سهولة في تعاطي الأعضاء داخل الكتلة النيابية الواحدة، وتعاطي الكتل مع بعضها، لكن الواقع عكس ذلك تماما، وينذر بتصدّع كتلويّ وعدم استقرار على مستوى أعمال اللجان الدائمة.
حيث تزخر الـ ١٤ يوم الأولى من عُمر أي دورة عادية للمجلس باستحقاقات أربع، أنجز المجلس إثنتان منها بسلاسة، الردّ على خطاب العرش السّامي واختيار المكتب الدائم، وواجه تكلُّسا في اثنتين أُخرَيين، تشكيل اللجان الذي جرى بشَقّ الأنفُس، والتجاذبات التي ما زالت ترافق انتخاب رؤساء ومقرري اللجان والتي يؤمل وأن تُحلّ سريعا.
ومن أول انعكاسات ذلك تعطّل الوظيفة التشريعية للمجلس، فبالرغم من إقرار القانون المُعدل لقانون خدمة العلم دونما إحالة إلى اللجنة المختصة تحت صفة الاستعجال، إلّا أن مشروع قانون الموازنة بقي حبيس الأدراج لأكثر من سبعة أيام لعدم اكتمال بُنية اللجنة المالية رئيساً ونائباً ومُقرّرا، كما هو حال سائر اللجان رغم مرور شهر على انطلاق الدورة.
ومن بين الظواهر الغريبة ابتداء مشكلة المكاتب التي تمثلت برفض أعضاء المكتب الدائم السابقين تسليم المكاتب لأقرانهم الحاليّين، والتي استمرّت لأسبوع في سابقة لا يتخيّل أي متابع أنها قد تقع على مستوى الغرفة التشريعية الأولى، خاصة مع كون البُدلاء من ذات أحزاب زملائهم السابقين.
ثم برزت معضلة التوافق على تشكيل اللّجان، والتي أوشكت أن يضطرّ المجلس لانتخاب أعضاءها إذا تعذر التوافق المبني على التمثيل النسبي للكتل والذي يفترضه النظام الداخلي بمعرفة المكتب التنفيذي خلال الـ١٤ يوم الأولى لانعقاد المجلس، ورُفعت الجلسة عندها لتفادي تفاقم الأمور.
لنأتي بعد ذلك إلى أكثر المسائل تعقيدا حتى اللحظة والتي تشكل المفارقة الأكبر، فقد اجتهدت الحكومة مستغلة العطلة البرلمانية الكاملة ودفعت بمشروع قانون الموازنة ضمن الميقات الدستوري وصوّت المجلس على إحالته الى لجنته المالية التي لم تكن قد تشكلت بعد! والتي لم تنعقد حتى اللحظة لبدء نظر المشروع إذ لا يجوز ان تجتمع إلا بدعوة من رئيسها أو نائبه عند غيابه وفقا لأحكام النظام الداخلي.
ان هذه الإرهاصات لا تبشّر بأداء برلماني يتوق له الشعب، فالتجاذبات بين الفرقاء السّياسيين أمر طبيعيّ ومُبرَّر؛ لكن التجاذب بين أعضاء الحزب الواحد والكتلة الواحدة غير مألوف، ويؤدي الى حالة تكلّس واستعصاء تتعطّل تبعا لها وظائف المجلس، وقد يؤسّس إلى حالات مماثلة في الأيام المقبلة داخل بنية الكتل الحزبية واللّجان وعلى صعيد الجلسات مما سيُفقد المجلس قدرته على موازاة الأداء الحكومي في الرقابة وتمحيص مخرجات المطبخ القانوني بالصورة المطلوبة، نوعيّاً وكميّا.
فالتزام النواب بنظام مجلسهم الداخلي هو ثاني معايير الالتزام أهمية بعد الدستور، وقد تكون في هذه السوابق دعوة لإعادة النظر بأحكام النظام من خلال تضمينه نصوصا تعالج حالات الفراغ، فضلا عما يحتاجه من تطوير لينتقل من الفردية الى العمل الكتلوي الجماعي، فالمكتب الدائم بحاجة الى نصوص تمكنه من اتخاذ القرار في حالات خاصة كهذه التي نحن بصددها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر تمكينه من اتخاذ القرار باستمرار اللجنة الدائمة السابقة في عملها إلى حين تشكيل لجنة جديدة، وكذلك منحه الحق باتخاذ القرار بتسمية أعضاء اللجنة مؤقتا وفق الاختصاص وعلى أساس التمثيل النسبي في حال تعذر ذلك في الدورة الأولى للمجلس، والنص على الجهة المخولة بتفسير النظام الداخلي عند الحاجة نظرا لاعتذار المحكمة الدستورية عن ذلك سابقا وعدم وجود جهة مخولة بذلك، وغيره الكثير مما لا يتسع المجال لذكره حول حاجة النظام للتعديل.
وعلى ذات الصعيد؛ وجب التنويه إلى حتمية وضرورة تمكُّن كافة أعضاء المجلس الموقر من أحكام نظامهم الداخلي، مع تساؤلٍ ما إذا كان النواب الجدد قد تلقوا البرنامج التدريبي الخاص بأبرز التشريعات في الدورة السابقة والمنصوص عليه في مدونة السلوك النيابي، حيث تلا تصفيق النواب لكلمة رئيس الوزراء إبّان تبوؤ رئيس المجلس الجديد موقعه انتقاد النائب صالح العرموطي، والذي عقّب بالقول "أن التصفيق ممنوع في النظام الداخلي"، وهذا غير دقيق إذ أن النظام يمنع ظهور علامات استهجان أو استحسان-ومن ضمنها التصفيق- على الجالسين في شرفات المجلس خلال الجلسات النيابية، لكنه لم يمنع ذلك على النواب، ولم يصحّح تلك الملاحظة أي من أعضاء المجلس قاطبة، مما يدلل على ضرورة إلمام النواب جميعا بنظام مجلسهم لئلّا يُقال في النظام ما ليس فيه.
نريد للمجلس ان يجد مساحات مشتركة تُعينه ليكون على قدر التحديات الحالية والمستقبلية داخليا وخارجيا، فما يجري من تعطيل لا يخدم المسيرة السياسية بالمطلق.
لقد تشرفت ومعالي رئيس المجلس الحاليّ بعضوية اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، وهو صاحب التاريخ الأمنيّ والسياسيّ العريق، والصفات الشخصية التي صقلتها المؤسسة العسكرية بين الحلم والحزم، ولا شك بأن مهمته صعبة وهو على قدرها بعون الله، وكما طالبَ الأردنيين بألّا يكونوا عبئا على الدولة، يحتاج الأردنيون من مجلسهم الذي يمثلهم أن يكون على قدر تطلعاتهم ومصالحهم، مترفّعاً عن بعض الصراعات في سبيل الإنجاز، لا التعطيل، فهذه نقطة الأساس والانطلاق.