facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الأثر الذي يصنع الغد


أ.د سلطان المعاني
19-11-2025 11:36 PM

لم يتوقف الإنسان في أي زمن عن مطاردة فكرة الخلود. منذ أولى الأساطير وملاحم السومريين وبكاء جلجامش على رفيقه إنكيدو، بدأت رحلة البحث عن العشبة، عن النبع السري، عن الشرارة التي تُبقي الجسد منتصباً أمام الزمن. كانت الرحلة طويلة، ينحت فيها الإنسان صخراً، ويواجه فيها الطبيعة، ويخطب رضا آلهة صنعها من خوفه، ويخوض معها صراعاً يختلط فيه الرجاء بالرهبة. ومع ذلك، انتهت كل المحاولات إلى إدراك واحد: الجسد لا يخلد، والخلود بابٌ لا يدخل منه إلا الأثر.

الأثر هو البصمة التي تبقى بعد أن ينطفئ الجسد. هو ما يقوله العمل بعد أن يصمت الصوت، وما ترويه السيرة بعد أن تغادر الوجوه. وقد جرّب الإنسان كل الطرق ليهرب من هذا المصير المحتوم، لكنه لم يجد غير الأثر طريقاً للعبور إلى ضفة الزمن القادمة. لذلك حملته الأساطير إلى البحث عن العشبة، وحملته الفلسفات إلى التأمل، وحملته الحضارات إلى البناء، لكنه كلما عاد إلى ذاته وجد أن الخلود الوحيد الممكن هو الخلود الأخلاقي والمعرفي والإنساني: أثرٌ يبقى، وفكرةٌ تتحرك، وذكرٌ يمر من جيل إلى جيل.

حين نسأل: كيف نترك أثراً؟ فإن السؤال يفتح بوابة وجودية عميقة. فالأثر ليس ضجيجاً ولا بطولة عابرة، فهو بناءٌ داخلي يبدأ من الطريقة التي نتعامل بها مع أنفسنا والآخرين. أثر العلاقات، أثر الكلمة الصادقة، أثر العشرة الطيبة، أثر الإحسان، أثر الإنجاز الذي يُضاف إلى رصيد المجتمع، أثر الأخلاق التي تُشبه جذراً يمتد في الأرض ويمنح الأغصان معنى. بعض الآثار يضيع حين يُبنى على رغبات متقلبة أو على مصالح آنية، وبعضها يرسخ حين يُبنى على أرضية صلبة ذات رؤية واضحة ومغروس عميق.

الأثر، بمعناه الأوسع، هو ما نمضي به إلى الأمام. هو ذلك الوعي الذي يحرك النظر، فلا يلتفت إلى الخلف إلا للدرس، ولا يستند إلى الماضي إلا بمقدار ما يمنح الحاضر قوةً واتساقاً. المستقبل لا ينتظر المترددين، والزمن القادم لا يصنعه الذين ينظرون إلى الوراء. نحن في مرحلة يتحرك فيها العالم بسرعة تكاد تباغت كل من لا يحسن قراءة اللحظة. كل ما اعتدناه يتغير: شكل المعرفة، شكل العمل، شكل العلاقات، شكل السياسة، شكل الاقتصاد، وشكل الوعي الإنساني ذاته.

التحولات المعرفية التي يمر بها العالم اليوم ليست حدثاً عابراً. الذكاء الاصطناعي، فائض المعلومات، الأدوات الرقمية، النماذج الجديدة للاتصال، كلّها ليست امتداداً بسيطاً للماضي. إنها موجة كاسحة تعيد تشكيل الحياة من جديد. السنوات القليلة القادمة ستخلق أنماطاً غير مألوفة في كل شيء تقريباً: كيف نعمل، كيف نتعلم، كيف نفكر، كيف نبتكر، وكيف نُعيد تعريف الإنسان نفسه. هذه الموجة لا ترحم المتباطئين، لكنها تمنح فرصة واسعة لمن يملك أدوات الغد، ويعرف كيف يقرأ اتجاه الريح المعرفية.

لا سبيل إلى امتلاك الغد من دون امتلاك أدواته. والأدوات تقنية وذهنية أيضاً. يجب أن نمتلك القدرة على التعلم المستمر، على النقد الهادئ، على الشجاعة في مواجهة التغيير، على إعادة تشكيل مهاراتنا بما يتناسب مع الواقع الجديد. الإنسان الذي يعتمد على ما كان يعرفه فقط يفقد موقعه. أما الذي يفتح أبواب المعرفة أمام نفسه، فإنه يبني لنفسه موقعاً لا ينتزعه الزمن بسهولة. المستقبل يحتاج عقلاً مرناً، ونفساً متزنة، وروحاً مستعدة لعبور التحولات الكبرى بثبات.

ولعل أهم ما نحتاجه في هذا الزمن هو إدراك أن الأثر الحقيقي يتشكل من القدرة على تحويل المعرفة إلى فعل. العلم بلا أثر يتحول إلى غرور، والأثر بلا علم يتحول إلى فوضى. حين نمتلك الوعي بعمق اللحظة، ونعي ما يجري في العالم، نصنع لأنفسنا موقعاً جديداً يليق بما نطمح إليه. والمجتمعات التي تستثمر في أبنائها عقلاً ومهارةً وقيمة، هي المجتمعات التي تترك أثراً يتجاوز حدود الزمن. أما التي تركن إلى التكرار، وتخشى التجديد، وتخاف من المستقبل، فإنها تنطفئ قبل أن تكتمل حكايتها.

الغد خطوة تتشكل الآن. وكل خطوة نخطوها نحو المعرفة، وكل قرار نأخذه نحو تطوير أنفسنا، وكل جهد نوجهه نحو الإحسان، يضيف طبقة جديدة إلى الأثر الذي سنتركه. وهكذا يصبح الإنسان، مهما تغيّر الزمن، جزءاً من سيرة أكبر منه، سيرة تبدأ حين يدرك أنه لن يخلد بجسده، لكنه قادر على الخلود بما ينجزه، بما يزرعه، بما يتركه من أثر طيب.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :