كاميرات عمّان .. هل تُصلح ما أفسدته الفوضى أم أن الطريق يبدأ من الإنسان؟
لانا ارناؤوط
22-11-2025 09:52 AM
تشهد عمّان في السنوات الأخيرة توسعًا كبيرًا في منظومة الكاميرات التي تنتشر اليوم في معظم الشوارع والتقاطعات الحيوية خطوةٌ تراها الحكومة ضرورة لتنظيم الحركة المرورية والحد من المخالفات التي تتسبب يوميًا بأزمات خانقة، وحوادث كان بالإمكان تفاديها لو التزم السائقون بقواعد الطريق ورغم أن الكاميرات باتت جزءًا من المشهد الحضري للمدينة، إلا أن السؤال الجوهري لا يزال مطروحًا: هل تكفي هذه العين الإلكترونية لإصلاح ما تآكل في الثقافة المرورية؟ وهل يمكنها وحدها أن تعيد الانضباط إلى طرقٍ امتلأت بالفوضى، أم أن الحل الحقيقي يبدأ من الإنسان لا من الإسفلت؟
لا شك أن الكاميرات تفرض نوعًا من الردع الخارجي فهي تذكّر السائق بأن هناك من يراقب، وأن للمخالفة ثمنًا مباشرًا وسريعًا ومع ذلك، فإن دورها يبقى محدودًا في معالجة سلوكيات لا تُصنّف دائمًا كمخالفات قانونية، لكنها في حقيقتها أخطر وأكثر إزعاجًا هناك تصرفات تُرهق الشوارع، لا يمكن لكاميرا أن تلتقطها أو تُظهر أثرها الكامل كالسائق الذي يقطع الطريق فجأة بلا إشارة، أو الذي يحتل المسرب الأيسر بلا سبب، أو الذي يرفض الاندماج بتهذيب في حركة السير، أو الذي يفتح نافذته ليصرخ أو يتشاجر، أو ذاك الذي يوقف سيارته في منتصف الطريق لأنه “مستعجل” هذه ليست مخالفات فقط، بل تعبير عن نقصٍ في الأخلاق والوعي، وعن غياب الرادع الداخلي الذي لا يتشكل إلا بالتربية والقيم.
فالمشكلة الحقيقية ليست كاميرا ناقصة هنا أو جهاز رادار غير كافٍ هناك، بل في الثقافة المرورية نفسها نحن أمام أزمة قيم قبل أن تكون أزمة شوارع، وأمام سلوكيات تراكمت على مدى سنوات حتى أصبحت جزءًا من يوميات المدينة ولا يمكن لأي كاميرا مهما بلغت دقتها أن تراقب ضمير السائق أو نواياه فكيف نتوقع ضبط مدينة كاملة بينما لا يزال بعض السائقين عاجزين عن ضبط أنفسهم؟ وهنا يبرز التحدي الأكبر: أن ما نعيشه اليوم ليس مجرد خلل طارئ يمكن إصلاحه بسهولة، بل حالة وُصفت مرارًا بأنها “كسرٌ في العظم”، أي أن تعديلها أصبح صعبًا ومؤلمًا ومكلفًا، لأننا نحاول إصلاح ما تراكم دون معالجة لعقود.
إن معالجة أزمة السير تتطلب إعادة النظر في قاعدة الهرم لا في قمته لا يكفي أن نلاحق السلوكيات الخاطئة بالكاميرات، بل علينا أن نسأل: من أين تبدأ هذه السلوكيات؟ وكيف يُصنع السائق المنضبط؟ الجواب يبدأ منذ الطفولة، في المدارس والبيوت، في التربية على احترام الآخر، وعلى قيمة النظام، وعلى أن الطريق مساحة مشتركة لا حلبة صراع بناء الأجيال هو الطريق الوحيد نحو شوارع أكثر أمنًا وهدوءًا، بينما الاكتفاء بمعالجة الموجود هو محاولة للسيطرة على فوضى ناتجة أصلًا عن غياب التربية المرورية السليمة.
في النهاية، لا خلاف على أن الكاميرات مهمة وضرورية وقد تساهم إلى حد جيد في تقليل الأخطاء والتجاوزات لكنها مهما توسعت لن تكون بديلًا عن الأخلاق، ولن تحل محل الرادع الداخلي الذي يمنع السائق من ارتكاب الخطأ قبل أن يخشاه فالمجموعة الأفضل من الأنظمة الإلكترونية لن تنجح ما لم تجد إنسانًا يعرف معنى المسؤولية، ويعامل الطريق كما يعامل بيته، ويحترم حق الآخرين في الوصول بأما.
وهكذا، يبقى الحل الحقيقي للأزمة في عمّان ليس في وضع كاميرا أمام كل سيارة، بل في وضع قيم داخل كل إنسان وهذا يبدأ من الجيل الجديد، من الأطفال الذين نعلمهم اليوم كيف يقفون في الطابور، وكيف يستأذنون، وكيف يكونون مواطنين صالحين قبل أن يصبحوا سائقين فحين نصل إلى تلك اللحظة، لن نحتاج إلى كاميرات كثيرة، لأن الأخلاق وحدها ستكفي لقيادة مدينة كاملة نحو الانضباط.