المثقف العربي والوجهة الثقافية
زيد الفضيل
28-11-2025 04:45 PM
شكّلت الثقافة بمعانيها ورافدها ومقاييسها وسبل الوصول إليها محور كثير من النقاشات داخل رواق كثير من المجتمعات المعرفية بوجه عام، وعلى الرغم من أن الثقافة بحسب قول اللساني ابن منظور تعني العمل بالسيف، والأخذ، والحذق، إلى غير ذلك من المعاني التي لا تتوافق مع معناها المشاع المستخدم في الوقت الراهن لدى العامة والمتعلمة، إلا أنها اصطلاحًا قد تعدت لتشمل معاني عديدة، ذات أطر وأبعاد حضارية واسعة، بحيث لم يعد معناها الاصطلاحي مقتصرًا على الجوانب العلمية المعرفية البحتة، بل شمل مختلف جوانب الحياة الحضارية فعلًا وسلوكًا، فهي بحسب ما اُتفق عليه في إعلان مكسيكو سنة 1982م: «جميع السمات الروحية والمادية والعاطفية التي تميز مجتمعًا بعينه، أو فئة اجتماعية بعينها، التي تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة، والحقوق الأساسية للإنسان، ونظم القيم، والمعتقدات، والتقاليد».
بهذا التعريف الشامل بدأت ملامح الثقافة تتشكل في سياقنا الذهني العربي، ومن خلاله أخذ عديد من المثقفين العرب في طرح تعاريفهم المختلفة حول الثقافة ومفهومها، حيث يرى محمد عابد الجابري بأن المثقف هو الذي يكون جوهره ناقد اجتماعي، فهو الشخص الذي همّه أن يُحدد ويُحلل ويعمل على المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ نظام اجتماعي أفضل، وأكثر إنسانية وعقلانية. وبالتالي فالجابري هنا يميز بين مستويين من المثقفين، أحدهما يمثل النواة التي تتكون من المبدعين والمنتجين من علماء وفنانين وفلاسفة وكتّاب وصحفيين، يتلوهم الممارسون لمختلف الفنون ومتذوقو وقارئو المعرفة المنتجة من مختلف الفئات والمهن.
أما برهان غليون فقد استحضر البعد الجمعي حال تعريف المثقف باعتباره جزءًا من نخبة مثقفة، فهو فاعل اجتماعي جمعي يكون بمثابة القوة المحركة اجتماعيًا وليس بالضرورة أن يكون مبدعًا في أحد فنون المعرفة. وكأني به يفرق بين المثقف والمبدع، فالمثقف حالة أشمل وأوسع من المبدع المنغمس في فنه، لكن ذلك ليس على إطلاقه، فعديد من الشعراء والروائيين وغيرهم ممن ينتمون إلى أجناس الفنون على اختلاف تنوعها، يتنفسون وعيًا كامنًا في أعمالهم الإبداعية، مما يجعلهم ينتمون إلى نادي الثقافة والمثقفين.
هكذا تولد مفهوم الثقافة ضمن إطار مجتمعنا العربي الحديث، ونسج على منواله عديد من الكتاب الذين أبدعوا بإنتاجهم الثقافي شعرًا ونثرًا، تحليلًا وشرحًا، وكان أن انطلق كل واحد منهم من فكرة آمن بها، وتوجه سياسي أو اقتصادي وحتى اجتماعي أو ديني، حيث برزت عديد من الرؤى والأفكار يمينًا أو يسارًا، كما أخذت تتصارع حينًا، فيما تمازجت حينًا آخر عبر نمو مفهوم المثاقفة، وهو مفهوم معاصر يدل على «عملية التغيير والتطوير الثقافي الطارئ على مختلف الجماعات البشرية، جراء حميمية التواصل والتفاعل بين بعضهم البعض، الأمر الذي تظهر ملامحه في مجمل الأنماط الثقافية الأصيلة السائدة في الجماعات كلها أو بعضها، باعتبار ما تحمله كل جماعة من رغبة جامحة في معرفة الآخر، واستثمار ما لديها من قيم ومعطيات إنسانية وحضارية نبيلة».
ولا شك فقد كان لإدراك بعض المثقفين العرب خلال القرن العشرين لمعنى ومفهوم المثقافة أثر إيجابي، إذ أدى إلى تنمية مختلف الكيانات الثقافية بشكل خلاق من جهة، وغير مضر بمقومات هوية وثوابت كل جماعة من جهة أخرى، فضلًا عما يمكن أن تعكسه تلك الحالة الإيجابية من روح الثقة والتسامح بين الأفراد والجماعات، لكونها ستزيل كثيرًا من الأوهام، وستساعد على تفعيل القواسم المشتركة بين مختلف الأطياف، الأمر الذي يخفف من حدة التوتر وسلبيات العداوة البينية، التي عادة ما يغذيها الجهل بالآخر، والإيمان بما تكوَّن في الذهنية من أحكام سلبية مسبقة عنه.
لذلك، فإن شيوع ثقافة المثاقفة في مجتمعنا العربي بوجه عام بصورتها الإيجابية، البعيدة عن ملامح الاقتباس الكلي والاستعارة العمياء، قد وفرت مساحة كبيرة لنماء ثقافة إيجابية أخرى، وهي ثقافة نقد الذات، التي تدل على مبلغ ودرجة الوعي بذواتنا، والذي بعث في داخلنا حركة نقدية بينية شاملة، استهدفت توفير الكثير من وجهات النظر في مختلف المسائل والقضايا، دون أن تقتصر على إبراز العيوب والأخطاء وحسب، بل اهتمت بالكشف عن مساحات الصواب والجمال في مختلف مناحي حياتنا أيضًا، بأسلوب علمي ملتزم بقواعد الحق والإنصاف، والتحلي بالأدب والأخلاق الرفيعة، وهو ما أشاع حالة النماء الثقافي في صورتها الإيجابية، ومن إعادة قراءة تراثنا القراءة الواعية القادرة على استشراف المستقبل ومتابعة تحدياته.
الثقافة عنوان وهوية
على أن الثقافة أيضا قد باتت في الوقت الراهن مصطلحًا إشكاليًا، فالكل له تعريفه، وهم بين من يُضيّق مساحتها وبين من يُوسعها، وهناك من يختزلها في قضايا وأجناس أدبية محدَّدة، وغيرهم يرونها مظلَّة تلتئم في ظلالها مختلف الفنون والمعارف، لكن، وعلى الرغم من هذه الاختلافات فقد ظلَّت «الثقافةُ» عنوانًا وهوية لأي مجتمع قديمًا وحاضرًا ومستقبلًا.
والاختلاف في تحديد مفهوم «الثقافة» له انعكاساته السلبية على الواقع، إذْ يخشى كثيرون أنْ يؤدي توسيع مفهوم «الثقافة» إلى تمرير مضامين لا صلة لها بالمعرفة تحت اسم «الثقافة»، وبالتالي تشويه المشهد الثقافي وإغراقه بالتافه والسطحي، فيما يخشى آخرون أنْ يؤدي تضييق مفهوم «الثقافة» وحصره في بعض الممارسات النخبوية إلى نوع من «الوصاية» وإقصاء العديد من المنخرطين في المشهد بحجة عدم الانتماء.
وإلى جانب الاختلاف المعاصر في مفهوم «الثقافة»، هناك اختلافٌ آخر في مفهوم «المثقف»، ومن له الحق في الاتصاف بهذا الوصف، إذْ يبدو هذا الوصف مستباحًا في ظل ضبابية المعايير، وعدم قدرة المؤسسات الثقافية في العالم العربي على الخروج بتصور واضح.
كما تثار حاليًا إشكاليات أخرى تتعلَّق بـ«الوسيط الثقافي إعلاميًا»، وذلك في ظل هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي على المشهد، وتغييبها للوسائط التقليدية كالكتب والمجلات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، مع نشرها في الوقت نفسه «ثقافة الدقيقة ونصف» القائمة على الاختزال والتسطيح. وهو ما يثير تساؤلاً وجوديًا حول مفهوم الثقافة وطبيعتها في الوقت الراهن، ناهيك عن شكل ومسار الوجهة الفكرية والمعرفية للمثقف بوجه عام.
رؤى وتصورات معرفية
في هذا السياق فقد خاض المثقف العربي خلال القرن العشرين معركته الفكرية التي شكلت مساره الثقافي، وتمترس خلف رؤى وتصورات معرفية آمن بها، وأيقن بأنها طريقه لبلوغ غاياته النبيلة، وكان أن انقسم المثقفون بين يمين ويسار، وتبنى كثير منهم أفكارًا متغايرة في ظل توجهات حزبية مختلفة، ليكون منهم الاشتراكي، والقومي العروبي، والقومي الناصري، والبعثي، والليبرالي الديموقراطي، وذو التوجه الإسلامي بشكل عام، علاوة على فصائل الإسلام السياسي والتي على رأسها جماعة الإخوان المسلمين، وكل هذه التوجهات قد أثمرت عن خلاصات معرفية نسجها أصحابها وتبنوا تطبيقها على أرض الواقع قدر استطاعتهم، وخاضوا فيها (تأييدًا ونقدًا) سجالاً كبيرًا أنتج كمًا غزيرًا من الأفكار والرؤى والتصورات.
على أن كل ذلك قد تلاشى مع نهاية القرن العشرين، حتى إذا ابتدأ هلال القرن الواحد والعشرين لم يعد لمختلف تلك التوجهات الفكرية أي وجود عملي على السطح، حيث تساقطت تباعا وصولا إلى سقوط حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية في الثامن من ديسمبر 2024م، وبذلك يكون انتهاء حقبة ثقافية واسعة كان للمثقف العربي فيها بصمته الفكرية، ليصبح الحديث فيها اليوم من باب المعرفة والتأصيل التاريخي، وبخاصة مع وضوح حالة القطيعة المعرفية بين مثقف اليوم ومثقف الأمس، وتغير مفهوم الثقافة والمثقف وفق المعطيات المعاصرة القائمة على مركزية ثقافة وسائط التواصل الاجتماعي، واختزال المعلومة بشكل مخل، في ظل تسيد مفهوم نظام التفاهة ضمن سياقنا المعرفي بوجه عام.
دماء فاعلة
هكذا أصبح مسلمًا بأن الثقافة اليوم بحاجة إلى دماء فاعلة، وأذهان جادة متحررة، لقيادة المرحلة القادمة بكل جدارة واقتدار، رابطة عربتها المعرفية بتراكم ما سبق من معرفة، وبما يتواكب وتطلعات المثقف المعاصر وهمومه، ويتواكب أيضًا مع طبيعة المتغيرات القائمة على الصعيد الثقافي الإقليمي والدولي؛ وفي تصوري فإن إجادة اختيار تلك الذهنيات الثقافية الفاعلة بغض النظر عن عمرها الزمني، سيسهم في صناعة حاضر ثقافي مشرق، ومستقبل يليق بطبيعة الحركة المعرفية في العالم العربي، أسوة بما يدول حولنا من تغيّر وتقدم سريع.
في هذا السياق فقد سلط الدكتور ألان دونو الضوء في كتابه «نظام التفاهة» على مختلف الوسائل التي تحول بها ومعها المجتمع من سياقه الثقافي الجاد إلى سياق متفلت مرتكز على ثقافة التسطيح وتسخيف الأشياء إلى درجة تافهة، وهي حالة بتنا نعيشها بشكل مكثف جراء تداخل المفاهيم من جهة، وتطفل الجهلاء في كل شاردة وواردة، بل والأعجب حين يتزعم أولئك منصة البحث والدراسة، ثم وبسماجة ممقوتة يجعلون من أنفسهم قادة للرأي، في ظل تراجع وجودي للمثقف العضوي الجاد على الصعيد المؤسسي، وفي نطاق النشر والتوزيع والظهور الإعلامي.
وبذلك بدأ سمت جديد من المحسوبين على الثقافة الذين تقمصوا سمات التفاهة التي أرضت هوسهم في جمع الألقاب والحصول على شهادات وهمية، واستكثار عدد المناصرين والمتابعين، وتسطيح الأشياء، لتتمثل القيمة في العدد، فكلما زاد عدد المتابعين والمصفقين كلما زادت قيمة أحدهم، وكأن ذلك هو الغاية المرجوة التي يريد تحقيقها، وفي يقيني فتلك هي سمة الوهميين الواقعين في شرك سلطة الجماهير وتأثيراتهم السلبية كما يقرر جوستاف لوبون في كتابه النفيس «سيكولوجية الجماهير».
على أن كثرة المتابعين هنا مقرونة بالجانب المادي المتمثل في موضوع الربح على الصعيد المادي والمعنوي، فالكسب هو الغاية المرجوة سواء كان مالا أو وجاهة بين الناس، ولذلك وفي السياق المادي رأينا كيف صارت الشهرة وما يتبعها من مكاسب تسويقية هي غاية أولئك، ومصدرًا لتباهيهم، مثلهم مثل مشاهير الغناء ومن شاكلهم. وتلك خصلة لا يعرف معناها وطريقها المثقفون الحقيقيون على مختلف الأصعدة والمناهج الفكرية.
خلاصة القول، فقد أصبح حجم التيه في سياقنا الثقافي والمعرفي كبيرًا، فالجمهور صار هو الحاكم، وهو المعني بالاهتمام، وليس المختصين ومن أجهدوا أنفسهم في رواق المعرفة؛ وبات عدد المتابعين هو المعيار والمؤشر وليس قيمة المعرفة وعمقها، وهكذا يتم تسطيح كل شيء لحظة بلحظة، ويتحول المعرفي إلى أيقونة تراثية لا قيمه لها في خضم الإسفاف والتفاهة الممنهجة على الصعيد المؤسسي.
مجلة العربي