مواءمة الإدارة العامة مع مسارات التحديث
د. جاسر خلف محاسنه
28-11-2025 06:02 PM
في ذكرى اغتيال وصفي التل، يقف العقل والقلب أمام تجربة أردنية استثنائية، تجسد الإرث الهاشمي العريق في خدمة الوطن وتركيزه على الإنسان. فقد منحه الملك الحسين، رحمه الله، الفرصة ليُبدع ويُثري الدولة ببصمته، انطلاقاً من مبادئ هذا الإرث الثابتة. وقد أتاح له مجالاً يمزج بمهارة بين المسؤولية السياسية والإدارية والخيال الذي يفتح آفاق المستقبل. وقد ازدهر ذلك النجاح بفضل الطاقم الذي رافقه، الذين حملوا معه الرؤية، واجتمعوا على مبدأ العمل المخلص والالتزام الذي يُقاس أثره بالإيجاب في حياة الناس.
كان وصفي التل يتقدم في التجربة الأردنية بكل ثقة. تجاربه كانت واقعاً ناصعاً، وتجاوزت حدود الشعارات، إذ كان يقترب بصدق من أحلام الناس، يقرأ طموحاتهم، ويحوّل إمكاناتهم إلى سياسات عملية مزدهرة. وفي ترجمة هذا المبدأ، كانت إدارته توجّه بتكريس الأولوية لتوفير الخدمات والطرق للمناطق النائية، ترسيخاً لعدالة التوزيع الشاملة. الأمانة كانت نهجه، والشجاعة منطقه الطبيعي، والصراحة أداته لوضع الرؤى في مواضعها الصحيحة. إدارة وصفي التل كانت أشبه ببناء صرح متين، بأساس واضح، وغاية سامية، وهندسة دقيقة.
الرمزية التي ارتبطت باسمه نبعت من الأثر المبهج، وتجاوزت قوة الكلمات، حيث رأى الناس في قيادته عملاً يومياً يضيء لهم الطريق، ويعيد للوظيفة العامة أسمى معانيها. لقد أدرك وصفي أن الحكم الرشيد هو قدرة على الاستباق والاحتضان، فكان يلتقط أمل الناس قبل أن يصبح مطلباً. وعلى هذا الأساس الثابت، فإن الفرصة اليوم سانحة لإدارة عامة قادرة على الإنجاز والتحفيز، مما يجعلها تُقدم الفعل على القول، وتستمع بإنصات، وترى بوضوح، وتتعامل مع الواقع بصفاء عقل وثبات موقف.
الأردن اليوم يقف على أعتاب مرحلة جديدة واعدة. مجتمع يمتلك طاقات هائلة ويواجه تحديات تتطلب الإبداع، ودولة تسعى لتجديد طاقتها وتحقيق الإنجاز، وإدارة عامة تتطلع إلى روح جديدة تحقق أثراً تنموياً محسوساً. الارتقاء الذي يدعو إليه الناس يتحقق عبر شراكة حقيقية مع المسؤول، وتكريم لكرامة المواطن، وقرار يضع الإنسان في صميم كل عمل.
إن روح هذا الإرث تفتح باباً مُلهماً لفهم متطلبات المرحلة المقبلة للأردن؛ وفي هذا السياق، تقوم المنظومة التنفيذية على رؤية واضحة للتغيير، وهي رؤية متجذرة في الإرث الهاشمي لخدمة الإنسان، وتستمد قوتها من توجيهات جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين. هذه الرؤية تنطلق من مبادئ التحديث السياسي لتوسيع المشاركة، وتعزز الشفافية، ومنح الشباب صوتاً ومكانة في القرار. وتمضي في العمل الاقتصادي المباشر الذي يخلق فرصاً حقيقية ومستدامة، ثم تُكتمل بإدارة عامة كفؤة تعيد بناء الثقة عبر أثر تنموي ملموس. هذه العملية تتناغم مع الطموح الوطني، فتتحول الأفكار إلى مسار إصلاحي يُسعد الناس في حياتهم.
المستقبل الأردني يحتاج إلى عقل يمتلك القدرة على ترتيب الأولويات، وإلى إدارة تنفيذية تستشعر احتياجات الناس قبل أن تُعلن، وإلى إدارة تنشغل بتحسين جودة حياة المواطن قبل كل اعتبار. يحتاج إلى نموذج ينسجم مع طموح الأردني إلى مسؤول يُقدره ويسمعه ويخطو معه على الأرض. هذه ضرورة ملموسة لبناء الغد الأفضل الذي نستحقه جميعاً.
وصفي التل منار في الذاكرة ومصدر إلهام، وهو يمثل إطاراً فكرياً وسلوكياً صالحاً للتجديد. وبناءً عليه، فإن هذا الإطار يمثل دعوة لإعادة تعريف الإدارة العامة في الأردن، بما يتناغم كلياً مع مسارات التحديث. إنها دعوة لإطلاق جيل جديد من المسؤولين يحمل جوهر تلك الروح، ليعيد بناء الثقة ويصوغ بها الطريق نحو مستقبل أردني أكثر ثباتاً، وازدهاراً، واتساعاً في الأثر التنموي.