يمر التعليم في الأردن بمرحلة إعادة تعريف شاملة، لا تقتصر على تطوير المناهج أو تحديث البنية التحتية، بل تمتد نحو صياغة نموذج إنساني ومعرفي جديد يضع الابتكار في صلب العملية التعليمية، وهذا التحول ليس رفاهية ولا مجرد استجابة ظرفية، لكنه مسار استراتيجي تدفعه رؤية التحديث الاقتصادي التي أرساها جلالة الملك عبد الله الثاني، حين يغدو المتعلم شريكا في الإنتاج المعرفي لا مجرد متلق للمعلومات، ومن هذا المنطلق يتحول التعليم من عملية تقليدية إلى منظومة متقدمة تهدف تمكين المتعلم بمهارات التفكير النقدي والريادة والقدرة على المنافسة في سوق عمل عالمي متغير.

ورغم أن الأردن قطع شوطا مهما في مؤشرات التحصيل الأكاديمي، فإن الواقع اليوم يستدعي تجاوز هذه الإنجازات نحو بناء منظومة أكثر مرونة وابتكارا، إذ الأرقام تتحدث بوضوح؛ فمعدل الإلمام بالقراءة والكتابة الذي تجاوز 98%، والتقدم الملحوظ في معدلات الالتحاق بالتعليم الثانوي والعالي، وتصدر الأردن إقليميا في كثافة الباحثين، تعكس جميعها قاعدة صلبة يمكن البناء عليها، وهذه المعطيات وردت في تقارير متخصصة صادرة عن منظمات دولية مثل اليونسكو والبنك الدولي، وهي تشير إلى أن البنية البشرية الأردنية تمتلك مؤهلات استثنائية، غير أن هذا التفوق لا يحجب التحديات الأساسية وعلى رأسها الفجوة بين ما يتعلمه الطلبة وما يحتاجه سوق العمل، وهو ما أكدته دراسات صادرة عن المنتدى الاقتصادي العالمي عن قابلية التشغيل والمهارات الريادية.

في المقابل يفتح التحول الرقمي الباب واسعا أمام الأردن لتعزيز مكانته في اقتصاد المعرفة، والانتقال من “مكان التعليم” إلى “فضاء التعليم” ليس مجرد استعارة، وإنما وصف دقيق لتجربة تعليمية أكثر انفتاحا وابتكارا، حيث تتجاوز المعرفة حدود الصف والكتاب. فمنصات مثل “جو أكاديمي” و”وتد” لعبت دورا محوريا في توفير محتوى قابل للوصول بمرونة، وساهمت في تحسين نتائج الطلبة، وذلك وفق تقارير محلية أصدرتها وزارة التربية والتعليم عن أداء الطلبة على المنصات الرقمية، وهذا التوسع الرقمي يمنح المدارس والمعلمين قدرة أعلى على تخصيص التعلم، وتحويل الطلبة من مستهلكين إلى منتجين للمعرفة، في سياق عالمي أصبح فيه الإتقان الرقمي أحد أهم مؤشرات التنافسية الاقتصادية.

أما على صعيد تمكين المرأة فيبرز الأردن كحالة لافتة في الإقليم، إذ تفوق نسب التحاق الطالبات بالتعليم العالي نظراءهن من الذكور في عدة تخصصات، وتقارير هيئة الأمم المتحدة للمرأة تشير إلى أن التدريب الرقمي والمبادرات الريادية الموجهة للنساء أسهمت في رفع مشاركتهن في السوق، وإن لم تصل بعد إلى المستوى المنشود. هذا التحول يكرس مبدأ العدالة والشمول الاقتصادي، ويؤكد أن التعليم ليس مجرد حق اجتماعي، بل أداة استراتيجية لزيادة رأس المال البشري وتعزيز الابتكار.

وتتضح ملامح المستقبل أكثر مع إطلاق عملية تطوير الخطة الاستراتيجية للتعليم للأعوام 2026-2030 بالشراكة مع اليونسكو، وفق ما أعلنته وزارة التربية والتعليم في يونيو 2025، والتي تركز على معالجة الفجوة الرقمية وتوسيع الفرص التعليمية وتحسين جودة الخدمات التعليمية، وهو ما يدعم جاهزية النظام للتعامل مع التحولات العالمية المتسارعة، كما تعكس الإنجازات المنفذة على الأرض—مثل إنشاء المدارس الجديدة، وصيانة المرافق، وتدريب آلاف المعلمين—تحولا عمليا يتجاوز الورق إلى التنفيذ الفعلي، كما جاء في التقارير الربعية الصادرة عن الوزارة.

وفي نهاية المطاف يصبح التعليم مشروعا وطنيا يتجاوز حدود الصف إلى بناء مجتمع قائم على الإبداع والتنمية المستدامة، فالسيادة التعليمية التي يطمح إليها الأردن ليست شعارا، بل منظومة تتكامل فيها الأدوار بين الحكومة والقطاع الخاص والجامعات والمجتمع المدني، بحيث يصبح الاستثمار في الإنسان هو الركيزة الأهم للنمو الاقتصادي، وفي عالم يتغير بوتيرة تكاد تربك حتى الدول المتقدمة، يرتسم أمام الأردن طريق واضح: التعليم ليس فقط صمام أمان اجتماعي، بل محرك تنموي ومختبر يصنع فيه مستقبل الدولة واقتصادها وريادتها.