منذ نشأة الدولة الأردنية مطلع القرن العشرين، ظلّ الأردن وما زال ساحة لتقاطعات القوى الدولية، محكومًا بموقعه الجغرافي الفريد وتكوينه الديموغرافي ومحدودية موارده الطبيعية. وإذا كانت الامبراطورية البريطانية صاحبة وعد بلفور قد مثّلت القوة الأساسية المؤثّرة خلال مرحلة الانتداب وما بعدها، فإن الامبراطورية الامريكية أصبحت خلال العقود الأخيرة اللاعب الأكبر حضورًا وتحكما في تحديد مساحات الحركة الاقتصادية والسياسية للأردن وفي العالم اجمالا. غير أنّ المقارنة بين المرحلتين تكشف عن اختلافات جوهرية في السياسات لا يمكن تجاهلها، خصوصًا في إطار محاولات الأردن المستمرة لتأمين استقلاله وامنه الاقتصادي وحماية ثوابته الوطنية.
فحين كانت بريطانيا القوة العظمى الأولى في المنطقة، لعبت دورًا أساسيًا في ترسيخ أسس الدولة الأردنية الحديثة. وعلى الرغم من الطابع الاستعماري لتلك الحقبة، إلا أنّ السياسة البريطانية تركت مجالاً نسبيًا لعملية بناء اقتصادي تدريجي وادوات التنمية وقد شهدت ففترة الثلاثينيات والأربعينيات توسعًا في المشاريع الزراعية والبنى التحتية وبناء مؤسسات الدولة مع منح الأردن مساحة محدودة ولكنها معقولة ومؤثرة للبناء والتنمية وادارة شؤونه الاقتصادية.
لقد كانت العلاقة آنذاك قائمة على معادلة “التنسيق والتمكين مقابل الاستقرار”، مما أتاح للأردن هامشًا أكبر من التنوّع في علاقاته الاقتصادية والتجارية ، وبناء مؤسساته دون قيود منهجية على خياراته الخارجية.
ومع الانتقال إلى النفوذ الأمريكي وتضييق دائرة الخيارات ومع تراجع الدور البريطاني وصعود الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وجد الأردن نفسه حاله حال معظم دول المنطقة والعالم أكثر ارتباطًا بشبكة المصالح الأمريكية. غير أنّ المرحلة الأمريكية حملت معها ملامح مختلفة تماما بالتضييق على الشراكات مع العالم وبخاصة الصين وروسيا واحباط محاولات تحقيق الامن الاقتصادي والمائي والتنمية المستدامة وترتيب الديون الاجبارية لصندوق النقد الدولي واستنزاف قوة الدولة الاقتصادية.
تُظهر السنوات الأخيرة، بحسب محللين في العلاقات الدولية، أن واشنطن باتت أكثر حساسية تجاه أي تعاون أردني مع القوى الآسيوية الصاعدة، سواء في مجالات التكنولوجيا المتقدمة أو البنى التحتية الرقمية أو أنظمة الذكاء الاصطناعي وذلك لتحقيق الضغط لمصلحة اسرائيل وفرض التطبيع ودمجها مع دول المنطقة بشكل طبيعي ولكن هذا مستحيل ان يحصل بالقوة والضغط دون توفر معادلة الامن مقابل السلام وتحقيق الرفاه لشعوب المنطقة .
لقد كان الأردن وما زال يطمح إلى بناء برنامج مفاعل نووي سلمي لأغراض تحلية مياه البحر وتوليد الطاقة، وهو مشروع استراتيجي لدولة تعدّ من أفقر دول العالم مائيًا. إلا أن العرقلة والتحفظات الأمريكية، واحجام الوكالة الدولية للطاقة الذرية و الدول الكبرى عن دعم دورة الوقود النووي الكاملة، حدّ من قدرة الأردن على استغلال احتياطاته الطبيعية المرتفعة من اليورانيوم، التي لا يزال مسموحًا التعامل معها كخامات تباع أشبه بالرمل دون التخصيب .
ان المساعدات، التي كانت يومًا من ركائز دعم للاستقرار الأردني السياسي والاقتصادي ، أصبحت وبشكل غير مسبوق ورقة ضغط في ملفات سياسية حساسة ، تتعلق بمستقبل القضية الفلسطينية.
في مواجهة هذا الواقع، برز دور جلالة الملك عبدالله الثاني كعامل حاسم في حماية القرار الوطني واستمرار استقلالية الدولة الأردنية. فمنذ تولّيه العرش، اتخذ جلالته مسارًا متوازنًا في العلاقات الدولية، قائمًا على تنويع الشركاء دون الانزلاق في محاور حادة، وعلى مقاومة كل محاولة لفرض وقائع جديدة على حساب الأردن . منها الرفض القاطع لأي مشاريع توطين أو تهجير للفلسطينيين في الأردن، باعتبارها تهديدًا للهوية الوطنية الفلسطينية وللقضية الفلسطينية على حد سواء. مع التأكيد على حق الأردن في اختيار مساره الاقتصادي، وعدم رهن قراراته لاعتبارات سياسية خارجية ودعم مستمر لمشاريع الطاقة والمياه رغم العراقيل الدولية، بحثًا عن حلول استراتيجية لا تخضع للمساومات .
لقد شكّلت هذه المواقف درعًا سياسيًا صلبًا منع تمرير ترتيبات إقليمية خطيرة كانت ستغيّر شكل المنطقة. ولا يمكن تفسير قدرة الأردن وجلالة الملك على تجاوز الأزمات دون قراءة دور الشعب الأردني الذي أثبت عبر عقود محبة صادقة لوطنه والتفافًا حول قيادته الهاشمية.
فقد واجه الأردنيون أزمات اقتصادية خانقة، وتحديات سياسية حساسة، وضغوطًا خارجية متعددة، وظلوا رغم ذلك متمسكين بوحدة الصف.
وقد شكّل الوعي الشعبي خط الدفاع الأول في رفض أي مشروع يستهدف الأردن، وفي مقدمتها مشاريع فرض التوطين وتصفية القضية الفلسطينية ومحاولات إعادة توزيع الأدوار الإقليمية على حساب المملكة اضافة الى الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية التي سعت إلى زعزعة استقلال القرار الأردني.
قد يُختصر المشهد الإقليمي كله في معادلة أردنية واحدة: جغرافيا صعبة وإرادة سياسية صلبة. ولعلّ العنصر الأكثر حسمًا في هذه المعادلة هو التقاء حكمة القيادة الهاشمية مع صلابة الشعب الأردني، ما جعل الأردن قادرًا على الصمود في وجه مشاريع إقليمية كبرى، وحافظ على هويته الوطنية، ورفض التنازل عن دوره التاريخي في حماية القدس والدفاع عن القضية الفلسطينية.
ان هذه السياسة الامريكية السطحية والغرور بحاجة فعلا الى اعادة النظر ولن تدوم . بل على العكس ستكون الوقود الذي يغذي العقيدة الاخلاقية الراسخة لدى ابناء هذه المنطقة برفض الظلم والتصدي له والتي لن تهزمها كل أسلحة وأموال العالم .