ترامب .. زمن أنصاف الحلول في السودان انتهى
د. أسامة أحمد المصطفى
04-12-2025 01:53 AM
أعلن الرئيس دونالد ترامب يوم الثلاثاء 2 ديسمبر وعلى لسان وزير الخارجية ماركو روبيو رسميًا أنه سيتولى العمل من أجل إيقاف الحرب في السودان وجلب السلام بالقوة، بعد أن أدرك أن المشهد السوداني تحوّل إلى دوّامة لا يمكن للعالم تجاهلها.
فمنذ اندلاع الحرب، تتنازع الأطراف روايات متضاربة تصنعها جهات حزبية وإعلامية وأيديولوجية دينية متطرفة تُخفي الحقائق أو تقلبها. الطريق إلى السلام ليس في تقاسم القوة بين المتحاربين، بل في مواجهة القوة المسيئة بالقوة التي تنحاز للعدالة، وعندما يتحرر السودان من قبضة التحالفات العسكرية والميليشيات الإرهابية الأيديولوجية، يمكن حينها فقط أن تعود السلطة إلى أصحابها الحقيقيين -الشعب السوداني-.
الحقيقة الكبرى التي يعرفها السودانيون قبل غيرهم هي أن المأساة لم تبدأ اليوم، ولا قبل عام أو عامين، بل هي امتداد لسلسلة طويلة من الحروب التي قادتها السلطة العسكرية منذ ما قبل اتفاقية أديس أبابا في عام 1973 من القرن الماضي، حين قُتل أكثر من مليون إنسان، معظمهم من المدنيين في جنوب السودان. ثم تواصل النزيف قبل اتفاقية نيفاشا عام 2005 حيث فُقد أكثر من مليوني شخص في الجنوب أيضًا، قبل أن تمتد دورة الدم إلى دارفور عام 2003، ليصل عدد ضحايا الإبادة الجماعية إلى أكثر من 300 ألف وفق تقديرات دولية راسخة، وكل ذلك من فعل القوة العسكرية السودانية.
هذه ليست دعاية سياسية، بل حقائق صارخة يعترف بها المجتمع الدولي. ولهذا لم يكن مستغربًا أن تتجه شخصيات أمريكية، وفي مقدمتها الرئيس ترامب خلال ولايته، إلى مساءلة جذور الأزمة بدلًا من الخضوع للإعلام الموجَّه. واليوم، ومع حديثه عن إمكانية التدخل لإحلال السلام، يواجه ترامب واقعًا لا يُعالج بالمجاملات الدبلوماسية ولا بالبيانات البروتوكولية.
السودان لم يعد يحتمل التجميل السياسي، ولم يعد يحتمل “حلول النصف” التي تُنهي مؤتمرات السلام لكنها لا تُنهي الحرب، ولم يعد يحتمل تجاهل شبكات النفوذ والأيديولوجيا الدينية التي تغذّي الصراع. فالمشهد الإعلامي الذي تهيمن عليه جهات مرتبطة بالإخوان المسلمين محليًا وخارجيًا لعب دورًا محوريًا في تضليل الرأي العام وصناعة روايات تُبرّئ من ارتكبوا الفظائع لعقود وتُلصق التهم بغيرهم بلا دليل، بينما الحقائق الموثقة تؤكد منذ نصف قرن أن المؤسسة العسكرية هي من بدأت تلك الحروب، وهي من أشعلت دوائر العنف من الجنوب إلى دارفور، ولا تزال آثارها تحرق البلاد حتى اليوم.
وما يزيد المشهد تعقيدًا أن طرفي الحرب الحاليين، القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، ملاحقان باتهامات دولية خطيرة، وذلك بسبب التضليل الإعلامي الذي تمارسه الجماعة الإسلامية في مخاطبتها للمجتمع الدولي. ولذلك فإن أي عملية سلام تُبنى على تبرئة طرف وإدانة الآخر وفق المصالح أو الإعلام الموجّه ستكون وصفة لفشل جديد. فالسودانيون جرّبوا هذا النوع من “السلام المزوّر” مرارًا، ولم يحصدوا منه إلا إعادة تدوير الأزمة بأشكال جديدة.
جدية الرئيس ترامب في بناء “سلام بالقوة من أجل السلام” بدأت بالخطوة الأولى، وهي ضرب جذور الحرب لا فروعها. وجذور الحرب موجودة داخل السودان، من شبكات تمويل واقتصاد حرب متشابك ومنظومات عسكرية تحتكر القرار وتيارات أيديولوجية متطرفة تعيد إنتاج خطاب الكراهية وتستغل الإعلام لصناعة واقع مزيّف، وكل ذلك أدركه ترامب.
لا سلام ممكن بينما تستمر هذه الآلة في العمل. فالسودان بحاجة إلى تجفيف كل مصادر الحرب، ومحاسبة من أشعلوها قبل محاسبة من وُلدوا داخلها، وبحاجة إلى تفكيك المنظومات التي بنت نفوذها على دماء الأبرياء، لا إلى توقيع صفقات جديدة معها تحت عنوان “الشرعية”.
الشعب السوداني، وليس أي ميليشيا إرهابية أو نخبة عسكرية أو جماعة إسلامية، هو الطرف الوحيد الذي يملك شرعية تقرير مستقبل البلاد. فالمجتمع المدني والنساء والشباب والفاعلون المحليون هم القوة الحقيقية التي يجب الحفاظ عليها وعلى ما تبقى من الدولة، وهم وحدهم القادرون على حمل مشروع سلام مستدام.
رؤية الرئيس دونالد ترامب تقول إن السلام في السودان لن يُبنى بالتهدئة الإعلامية، ولا ببيانات دبلوماسية، ولا بهدنٍ تنهار خلال ساعات، ولن يُبنى بتجاوز جرائم الماضي أو القفز فوق الحقيقة. فالسلام يبدأ حين يُقال بوضوح: لا شرعية ولا دعم ولا اعتراف لأي جهة عسكرية أو أيديولوجية تستمر في ارتكاب الفظائع أو تعطيل مسار العدالة.
لقد تحوّل الصراع في السودان إلى تهديد إقليمي ودولي، مع تمدد الجماعات المتطرفة، وموجات نزوح واسعة، وانتشار تهريب السلاح، وعسكرة البحر الأحمر. ولهذا فإن التدخل الأمريكي بقيادة ترامب سيكون بقوة وبقدرته على مواجهة جذور الأزمة، لا على ترتيب شكل جديد للسلطة، بل على إزاحة التطرف بكل مكوناته.
إن اللحظة الراهنة بعد إعلان ترامب لموقفه إما أن تكون فرصة تاريخية أو فشلًا تاريخيًا. فإما أن يُعاد تعريف التدخل الدولي بحيث يقوم على العدالة والمساءلة وحماية المدنيين، أو يستمر العالم في إدارة صراع يولّد صراعًا آخر في بلد أنهكته الحروب منذ نصف قرن، وهذا لن يحدث مع الرئيس ترامب الذي جعل من وزارة الدفاع وزارة للحرب من أجل السلام بالقوة.