مسارات النمو في الأردن: كيف نرفع الأداء دون زيادة الإنفاق العام؟
د. حمد الكساسبة
04-12-2025 01:35 PM
يمتلك الاقتصاد الأردني فرصة ملموسة لتعزيز وتيرة النمو دون تحميل المالية العامة أعباء إضافية، ويبرز في هذا السياق سؤال رئيس يتعلق بقدرة الاقتصاد على الاقتراب من مستوى النمو الذي تعتبره المؤسسات الدولية ضروريًا لاستيعاب الداخلين الجدد إلى سوق العمل، والمقدر بحوالي 4%. وتزداد أهمية هذا السؤال عند مراجعة المسار التاريخي للنمو، إذ حقق الأردن معدلًا يقترب من 6% خلال الفترة 2000–2009 مدفوعًا بازدهار الاستثمار وارتفاع الطلب الإقليمي، بينما شهدت الفترة 2010–2025 تراجعًا في المتوسط إلى حدود 2%–2.5% نتيجة تراجع الاستثمار وارتفاع كلفة الإنتاج وتزايد الضغوط الإقليمية (World Bank, 2023; IMF, 2024).
وبرغم تأثير العوامل الإقليمية وارتفاع المديونية وضغوط المالية العامة، فإن هذه المتغيرات لم تعد ظروفًا عابرة يمكن الركون إليها لتفسير ضعف النمو، بل أصبحت جزءًا من البيئة الاقتصادية التي ينبغي العمل ضمنها. ولذلك، فإن تعزيز النمو يتطلب التركيز على رفع الكفاءة والإنتاجية وتحسين التنظيم، باعتبارها المسارات الأكثر واقعية وتأثيرًا في ظل محدودية القدرة على تغيير العوامل الخارجية.
وتبيّن العديد من التجارب العالمية أن الإصلاحات ذات الكلفة المنخفضة—عند تطبيقها بصرامة—قادرة على إحداث أثر مباشر في النمو حتى في البيئات التي تواجه تحديات مالية أو إقليمية مشابهة.
وفي ضوء ذلك، يشكّل تحسين البيئة التنظيمية نقطة الانطلاق الأولى لرفع النمو، إذ إن تبسيط الإجراءات وتوحيد مسارات التراخيص ورفع مستوى الشفافية التنظيمية يمثل عناصر مؤثرة في قرارات المستثمرين. كما أن تقليص الزمن اللازم للمعاملات وتخفيف كلفة الامتثال البيروقراطي يعززان قدرة الشركات على تحويل وقتها ومواردها نحو الإنتاج بدلاً من الإجراءات، وهو ما يُعدّ من أسرع الأدوات ذات الأثر المباشر على النمو دون الحاجة إلى إنفاق مالي إضافي.
وتبرز كذلك أهمية رفع الإنتاجية القطاعية باعتبارها المسار الأكثر كفاءة لزيادة النمو دون أعباء مالية. فالفجوات الإنتاجية القائمة داخل بيئة الأعمال الأردنية قابلة للمعالجة من خلال تحسين الإدارة وتطوير مهارات العاملين وتحديث العمليات التشغيلية. وتشير تقديرات منظمة العمل الدولية إلى أن زيادة الإنتاجية بنسبة 10%–15% يمكن أن ترفع الناتج المحلي بشكل ملموس دون الحاجة إلى ضخ مالي إضافي (ILO Productivity Report, 2025).
ويمتد أثر تعزيز النمو إلى جانب التنافسية الخارجية، حيث يشكّل دعم الصادرات والخدمات رافعة أساسية للنمو، خصوصًا في القطاعات التي يمتلك فيها الأردن ميزات كامنة مثل التكنولوجيا والخدمات الطبية والتعليم والسياحة المتخصصة. كما يسهم تحسين كفاءة الحدود وتقليل كلف الامتثال التجاري وتسهيل النفاذ إلى الأسواق في زيادة النمو بما يصل إلى نقطة مئوية واحدة، وفق تقديرات البنك الدولي (World Bank – Trade Facilitation, 2024).
ويبرز سوق العمل بوصفه محورًا حاسمًا في معادلة النمو، إذ إن رفع مشاركة المرأة بنسبة 5%، وتعزيز المهارات التقنية، وتسهيل انتقال العمالة بين القطاعات يمكن أن يضيف ما بين 1% و1.5% إلى الناتج المحلي الإجمالي دون تحميل المالية العامة أي كلف إضافية، وهو ما تؤكده تقديرات صندوق النقد الدولي (IMF – Gender & Growth, 2024). ويعكس ذلك أهمية الاستثمار في رأس المال البشري باعتباره رافعة مركزية للإنتاجية.
كما يمتلك الأردن فرصة مهمة لتعزيز النمو من خلال تحسين تشغيل الأصول العامة غير المستغلة مثل المناطق الصناعية واللوجستية والأراضي الحكومية. فإعادة تشغيل هذه الأصول عبر نماذج تشغيل مبتكرة وشراكات استثمارية يقلل الحاجة إلى الإنفاق الرأسمالي ويحوّل الأصول غير المستغلة إلى محركات للنشاط الاقتصادي، وهو ما يتسق مع الحاجة إلى رفع كفاءة إدارة الأصول الحكومية وتعظيم عوائدها.
وتبقى الثقة الاقتصادية عنصرًا حاسمًا في تحفيز الاستثمار الخاص؛ فاستقرار التشريعات ووضوح التعليمات وتماسك البيئة التنظيمية عوامل تقلل من حالة عدم اليقين وتدعم قرارات التوسع. وتشير تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن تعزيز الثقة التنظيمية يمكن أن يرفع الاستثمار بما يصل إلى 15% دون أي حوافز مالية مباشرة (OECD – Business Confidence, 2024). وعليه، فإن تحقيق نمو قريب من 4% لا يأتي عبر مؤشر منفرد أو قطاع واحد، بل يعتمد على منظومة إصلاحية متكاملة تشمل تحسين الإجراءات، ورفع الإنتاجية، وتعزيز القدرة التنافسية، وتحسين تشغيل الأصول العامة، وترسيخ الثقة بالبيئة الاقتصادية. وعندما تتبنى الحكومة هذه الأولويات ضمن سياسة اقتصادية متماسكة وتضمن التنسيق الفعّال بين أجهزة الدولة، يصبح بلوغ مستوى النمو المستهدف هدفًا واقعيًا ومتسقًا مع تقديرات المؤسسات الدولية، ويمهّد الطريق لاقتصاد أكثر توازنًا وقدرة على خلق فرص عمل دون تحميل المالية العامة أعباء إضافية.