الأُردُنّ .. حينَ يَكتُبُ النَّشامى سَطرًا جَديدًا في كِتابِ المَجد
الدكتورة ميس حياصات
10-12-2025 11:56 AM
جاءَت لَحظةُ إعلانِ قُرعةِ كأسِ العالَمِ 2026 كحَدَثٍ اسْتِثنائيٍّ أعادَ تَرتيبَ المِزاجِ الوَطنيّ، وأطلَقَ مَوجةً مِنَ الفَخرِ امتدَّت مِنَ البُيوتِ إلى الشَّوارِع، ومِن مَواقِعِ التَّواصُلِ إلى تَفاصيلِ الحَديثِ اليوميّ. ففي مساءِ الجُمُعةِ الماضية، وبينما كانت أعيُنُ العالَمِ تَتَّجِهُ إلى العاصِمةِ الأُميركيّةِ واشنطن، كان الأُردُنيّونَ يَنتظِرونَ لَحظةً لَن تُنسى؛ لَحظةً ظَهَرَ فيها اسمُ الأُردُنِّ بين مُنتخَباتِ كأسِ العالَمِ لأوَّلِ مَرّةٍ في تاريخِه.
لم يَكُنِ المَشهدُ مُجرَّدَ ظُهورٍ لاسمِ دولةٍ في مَجموعةٍ تَضُمّ الأرجنتينَ والنّمسا والجَزائر، بل كان أشبَهَ بانفِتاحِ بابٍ كبيرٍ طالَما طَرَقَهُ النَّشامى بِعَرَقِهِم وأحلامِهِم وإصرارِهِم. فَوُجودُ الأُردُنِّ ضِمنَ مَجموعةٍ تَضُمُّ بَطَلَ العالَمِ ومُنتخَباتٍ راسِخةً في كُرةِ القَدَمِ لَم يَكُن مَدْعاةً لِلرَّهبةِ، بل مَصدَرًا لِلفَخر. لقد بَدا واضِحًا أنَّ الأُردُنَّ يَدخُلُ البُطولةَ بِصِفةِ المُنافِسِ لا المُتَفرِّج؛ مُنافِسٌ يُدرِكُ أنَّ كُلَّ دَقيقةٍ على أرضِ المَلعبِ هي فُرصةٌ لِقَولِ شيءٍ جَديدٍ لِلعالَم.
لقد جاءَ هذا التَّأهُّلُ التّاريخيُّ نَتيجةَ تَراكُمِ سَنواتٍ مِنَ العَمَلِ والصَّبرِ والتَّطوير. فمِنَ الأكاديمياتِ الصَّغيرةِ، إلى التَّحسُّنِ التَّدريجيِّ في المُستوى الفنّيّ، إلى الالتِفافِ الشَّعبيِّ الكَبيرِ حولَ المُنتخَب… كُلُّها عَوامِلُ صاغَت هذه اللَّحظة، وجَعَلَتها مَحطّةً وَطنيّةً فارِقةً في مَسيرةِ الرّياضةِ الأُردُنيّة. ولأنَّ الإنجازَ لَم يَكُن سَهلًا، جاءت فَرحةُ الأُردُنيّينَ مُضاعَفةً، كأنَّهُم استعادوا جُزءًا مِن أحلامِهِمُ الّتي طالَ انتِظارُها.
لكنَّ الحَدَثَ تَجاوَزَ حُدودَ الرّياضة. فقدِ انعَكَسَ التَّأهُّلُ بشكلٍ مُباشِرٍ على الرّوحِ الوَطنيّة، وخَلَقَ حالةً نادِرةً مِنَ التَّفاؤلِ الجَماعيّ. شَبابٌ رَأوا في النَّشامى نَموذَجًا لِلإصرار، وعائِلاتٌ تَبادَلَتِ الفَرَحَ كأنَّهُ عيد، وحواراتٌ يَوميّةٌ تَبحَثُ في فُرصِ الأُردُنِّ وإمكاناتِهِ. لقد أعادَ هذا المَشهدُ تَعريفَ مَعنى الأملِ في بَلَدٍ اعتادَ أن يُقَلِّبَ التَّحدّياتِ إلى إنجازاتٍ حقيقيّة.
وفي ظِلِّ هذا الإنجازِ التّاريخيّ، تَبرُزُ مَسؤوليةٌ على الجِهاتِ الرَّسميّةِ — السّياحيّةِ والاقتصاديّةِ والإعلاميّةِ والرّياضيّة — لِتَحوِيلِ هذا التَّأهُّلِ إلى مَنصّةِ تَرويجٍ عالميّةٍ لِلأُردُنّ. فوجودُ اسمِ الأُردُنِّ في كأسِ العالَمِ فُرصةٌ نادِرةٌ يَجبُ استثمارُها.
فالقِطاعُ السِّياحيُّ مَطالَبٌ باستِثمارِ هذا الحَدَث العظيم لِتَرويجِ الأُردُنِّ عالَميًّا، وإبرازِ كُنوزِهِ الطَّبيعيّةِ مِنَ البَتراءِ إلى البَحرِ المَيِّتِ ووادي رَمّ، والتَّأكيدِ على أمنِهِ واستِقرارِهِ وكَرَمِ شَعبِهِ.
والقِطاعُ الاقتصاديُّ أمامَ فُرَصٍ جديدةٍ لِجَذبِ استثماراتٍ عديدة، مُستفيدًا مِنِ ارْتِفاعِ مُستوى الظهور الإعلاميِّ العالَميّ.
والمُؤسَّساتُ الإعلاميّةُ مَسؤولةٌ عن تَقديمِ مُحتوًى يُجسِّدُ الهُويّةَ الأُردُنيّة، ويُظهِرُ صورتَها الحَضاريّة، ويُقَدِّمُ صورةً مُتَماسِكةً عن بَلَدٍ نابِضٍ بِالحَياةِ والطُّموح.
أمّا القِطاعُ الرّياضيُّ، فمَطلوبٌ مِنهُ الاستمرارُ في البِناءِ على هذا الإنجازِ، عَبرَ تطويرِ البُنى التَّحتيةِ، وتَوسيعِ قاعِدةِ الأكاديمياتِ، وصِناعةِ جيلٍ جَديدٍ مِنَ اللّاعِبين.
باختصار، فالتَّأهُّلُ لَيسَ مُجرَّدَ مُشارَكةٍ في بُطولةٍ؛ بل نافِذةٌ وَطنيّةٌ كُبرى يَجِبُ استثمارُها لِتَعودَ آثارُها على الدَّولةِ والمُجتَمَعِ لِسَنواتٍ مُقبِلة.
اليَومَ، يَقِفُ الأُردُنُّ على أبوابِ المُونديالِ لا بِصِفتِهِ دَولةً صَغيرةً تَبحثُ عن حُضور، بل بِوَصفِهِ وطنًا كبيرًا بِتَماسُكِ شَعبِهِ وطُموحِهِ. يَدخُلُ النَّشامى البُطولةَ وهُم يَحمِلونَ رِسالةً واضِحةً لِلعالَم:
نَحنُ هُنا… ووُجودُنا لَيسَ صُدفةً، بَلِ استِحقاقٌ صَنَعَتْهُ الإرادة.
وهُنا، في هذه اللَّحظةِ التّاريخيّة، يَبدأ فَصلٌ جَديدٌ مِن فُصولِ المَجدِ الأُردُنيّ.
هُنا الأُردُنّ… وهُنا يَبدأ المَجد.