جردة حسابات .. ما بدا في الضوء وما بقي في الظلال
د. ربا زيدان
10-12-2025 12:01 PM
في نهاية كل عام، ينهض داخلنا طقس خافت يتجلّى في مراجعة لذاتنا عبر مراجعة لأيّام العام الفائت... “حصاد العام” ؛ ذاك الترتيب الداخلي لما يمكن حمله من دروس وذكريات إلى أعوامنا التالية: بعض المكاسب، بعض الخسارات، وطبقة من الفهم لا تُدرَك إلا بعد أن يهدأ كل شئ وتختفي أنوار الاحتفالات بالعام الجديد
هذا الطقس، الذي كان في الماضي فعلاً شخصياً وعفوياً، تحوّل في العصر الرقمي إلى مساحة تُصاغ بعناية أمام جمهور واسع.
لم تعد " جردة العام" جلسة هادئة مع الذات؛ صارت مادة تُعدّ للنشر، تُقلّم أطرافها، وتُضبط لغتها تحت ضوء الشاشة.
ندوّن لأنفسنا، نعم، لكننا ندوّن أيضاً لعينٍ خارجية تراقب، تحكم، وتقارن.
هكذا تحوّل فعل المراجعة من فعل اعتراف إلى فعل انتقاء.
فالذاكرة، كما نعرف، لا تحتفظ بما حدث كما حدث، بل بما تستطيع قلوبنا احتماله.
ولذلك يصبح الحصاد في الحقيقة مزيجاً من الحماية والبوح؛ محاولة لترميم صورة العام كي يكون أقل قسوة حين نعيد النظر إليه.
ووراء هذا كله، تتحرك حقيقة أخرى:
أننا بتنا نعرّف ذواتنا عبر ما نعرضه للآخرين، لا عبر ما نعيشه وحدنا.
تتحول الإنجازات إلى مشاهد جاهزة للاستهلاك، والابتسامات إلى واجهات لطمأنةٍ لا نمتلكها دائماً.
كأننا نكتب تقرير أداء لا شهادة حياة.
ومع ذلك، تكمن في الهامش دائماً تلك اللحظات التي لا تُلتقط ولا تُنشر ، اللحظات التي تكوّن الحصاد الحقيقي من دون أن تطلب اعترافاً.
أتذكّر أنني احتجتُ شهوراً لأدرك أن بعض النجاحات ليست لي، مهما بدا بريقها لامعاً، وأن بعض الخسارات ـ التي بدت في حينها مرّة ـ كانت تنقذني من مسارات لم تُخلق لي.
هذا أيضاً حصاد العام، لكنه حصاد بلا مجد ظاهر، بلا تصفيق، وبلا صورة يمكن مشاركتها.
ربما لهذا السبب تبدو الابتسامات الرقمية أقرب إلى مسكّن عابر منها إلى حقيقة مستقرة.
فالفرح الذي يُلتقط للآخرين ليس الحصاد، بل واجهته.
أما المراجعة الحقّة فتحدث في المناطق البعيدة عن الضوء: في المصالحة المتأخرة، في تراجع الخوف خطوة او اكثر ، وفي هشاشةٍ لم نعد نخجل منها.
وحين نغلق هواتفنا، ونتأمل ما تبقى فينا من العام، ندرك أن الزمن لا يقاس بعدد الصور المنشورة ولا بعدد الإنجازات المعلنة، بل بما غيّره فينا بصمت.
بقدرتنا على الصمود، على التخلّي حين يلزم، وعلى الاحتفاظ بما يستحق البقاء.
وعند نهايات الأعوام نفهم أن البقاء ليس فكرة بطولية، بل ممارسة يومية.
وأن أبرز ما نحمله معنا هو قدرتنا على المضيّ، حتى حين نشعر أنًا لا نستطيع..