إربد… كم أنتِ جميلة في الشتاء
د. حمزة الشيخ حسين
10-12-2025 12:43 PM
كلّما هبّت نسائم الشتاء الباردة على إربد، عاد ذلك الطفل الصغير داخلي يوقظ الذاكرة. فالوطن ليس حجارته وشوارعه فقط، بل هو تلك اللحظات التي تُصنع في الحارات الضيقة وبين وجوه تعرفك قبل أن تقول اسمك.
في وسط إربد القديمة… في ذاك الحي العتيق الذي لم يكن فيه سوى بضعة محال بسيطة، وبيوت متقاربة كقلوب أصحابها، كُنا نلعب ونلهو منذ أن نعود من المدرسة وحتى تغيب الشمس. لم نكن نخاف من غريب، لأن الغرباء كانوا نادرين أصلاً. الكل يعرف الكل، والحي كان كعائلة كبيرة تمتد من طرف الشارع إلى طرفه الآخر.
حتى في المدرسة، كان المعلّم يعرف اسمك واسم والدك، وربما يعرف قصص العائلة كاملة. لم نكن بحاجة لتعريف أو بطاقة أو اسم طويل… كنا “أولاد البلد”؛ نكبر معاً، نختلف قليلاً، لكننا نظل في النهاية أبناء المكان ذاته.
وفي أيام الشتاء، كانت الدنيا تبدو أكثر بركة. لعبنا تحت حبات البرد والثلج الخفيف، لا نخاف من البرد ولا من البلل. كانت أمهاتنا يلبسننا جاكيتات الصوف الثقيلة التي لا نرى مثلها اليوم. تلك القطع التي تفوح منها رائحة البيت، ودفء الأم، وطمأنينة الأيام البسيطة.
وأذكر جيداً تلك الثلجة الكبيرة في أوائل السبعينات… عندما توقفت الحياة تماماً وانقطعت الطرق. يومها توقّف أمام بيتنا المرحوم المهندس ناصر الدلقموني، وجلب لنا تنكة سولار للتدفئة بسيارته، رغم الظروف الصعبة. هكذا كان أهل الحارة… شهامة حاضرة، نخوة لا تغيب، ومروءة لا تحتاج إلى دعوة أو طلب. وما زالت هذه الأخلاق حية في نفوس كثيرين حتى اليوم.
الشتاء بالنسبة لي لم يكن موسماً عابراً، بل ذاكرة حب. يجمع الناس، ويُلين القلوب، ويعيد للروح شيئاً من طفولة لم تبتعد كثيراً.
حتى الانتخابات في ذلك الزمن كانت مختلفة. عندما يترشح أحد “أولاد البلد”، يكون القرار محسوماً بلا جدال. لكن مع ضم القرى والأحياء، تغيّرت الموازين، ولم يعد لوسط إربد ممثل واضح. إلا أن التعيينات الرسمية كانت تعيد إلينا شيئاً من الاعتزاز، حين نرى شخصيات مثل دولة هاني الملقي أو وزراء وأعيان من أبناء المدينة في مواقع القرار.
ومع كل هذه التحولات… تبقى إربد بخير.
تبقى جميلة.
تبقى عاصمة الروح والذاكرة.
كم أنتِ جميلة في الشتاء يا إربد…
ليس فقط بثلجك ومطرِك، بل بما توقظينه فينا من حنين لا يشيخ أبداً…