المسيحيون في الشرق الأوسط .. ضرورة لحماية التعددية واستقرار المنطقة
محمد نور الدباس
10-12-2025 12:55 PM
في لقاء حضرة صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبد الله الثاني المعظم مع قيادات دينية مسيحية بحضور صاحب السمو الملكي الأمير الحسين بن عبد الله الثاني ولي العهد، يوم الإثنين الموافق 8/12/2025، أكد جلالته على أهمية استعادة الاستقرار في الشرق الأوسط والحفاظ على الوجود المسيحي فيه، وفي إطار التوجيه الملكي نقول؛ أنه في الوقت الذي تشهد فيه المنطقة العربية تحولات سياسية واجتماعية عميقة، وفي موضوع مستقبل المكوّنات الدينية في الشرق الأوسط، وفي مقدمتها الوجود المسيحي الأصيل، فإن هذا الوجود ليس تفصيلاً ديموغرافياً عابراً، بل عنصراً جوهرياً في تشكيل هوية المنطقة وتاريخها الممتد لآلاف السنين.
فهذا الوجود له جذور ضاربة في التاريخ، حيث يُعدّ المسيحيون جزءًا أصيلًا من الشرق الأوسط، فهنا نشأت المسيحية، وهنا تشكّلت كنائسها الأولى، ومن هذه الأرض انطلقت رسالتها إلى العالم. إن استمرار هذا الوجود يحمل قيمة تاريخية لا يمكن التفريط بها، فهو امتداد طبيعي لتاريخ المنطقة الروحي والحضاري.
كما أنه يشكّل رأس مال للتنوع والتعايش، فالتعددية الدينية في الشرق ليست عبئاً، بل مصدر قوة، لأن وجود المسيحيين يوفّر توازناً اجتماعياً وثقافياً يحدّ من الانغلاق، ويعزّز قيم التسامح والاعتدال، هذا التنوع كان (ولا يزال) أحد أهم عناصر التماسك المجتمعي، وغيابه يعني فقدان جزء من هوية المنطقة متعددة الأوجه، بمعنى أنه يعزز من طبيعة المنطقة المتعددة، ويجعل التفاعل بين الأديان والثقافات أكثر ثراءً، فهذا التنوع ليس عبئًا، بل مصدر قوة يحدّ من الانغلاق ويعطي نموذجًا للتعايش والاحترام المتبادل.
وهذا الوجود كان له دوراً محورياً في النهضة العربية، فمنذ بدايات النهضة العربية الحديثة، كان للمسيحيين دور ريادي في الصحافة والتعليم والترجمة والفكر السياسي، فقد أسسوا صحفًا ومؤسسات تعليمية ومراكز ثقافية ما زالت قائمة حتى اليوم، وأسهم حضورهم في نشر قيم الحداثة والانفتاح، وفي بناء نُظم فكرية أكثر تقدمًا.
ولا ننسى المواطنة والدولة المدنية، فالوجود المسيحي يسهم في ترسيخ مفهوم الدولة المدنية القائمة على المواطنة المتساوية، بعيدًا عن الانقسامات الطائفية، وكذلك هو الحال في العديد من دول المنطقة، فقد كان للمسيحيين دور فاعل في بناء مؤسسات الدولة الحديثة والمشاركة في الحياة العامة، بما يعزز قيم الشراكة واحترام القانون.
ومن زاوية أخرى ننظر إلى أن هوية الشرق مهدّدة بفقدان تنوعها، فالتراجع العددي لبعض المكوّنات الدينية، بما فيها المسيحيون، يطرح تحديًا خطيرًا على هوية المنطقة، فغياب أي عنصر من عناصر النسيج الاجتماعي يترك فراغًا واسعًا يهدد التوازن الثقافي والتاريخي، والحفاظ على الوجود المسيحي هو حماية للهوية التعددية التي تميّز الشرق عن غيره، فلوجود المسيحيين قيمة إنسانية وسياسية، كونه يعزز مفهوم المواطنة المتساوية وحقوق الإنسان، ويقدّم نموذجًا عمليًا للتعايش بين أتباع الديانات المختلفة. كما أن هذا التنوع يساعد في تقليل التوترات الطائفية ويفتح المجال لبناء مجتمعات أكثر استقرارًا.
لا يمكن تجاهل البعد العالمي لوجود المسيحيين في الشرق الذي يعتبر جسر حضاري مع العالم (بُعد عالمي)، فارتباطهم التاريخي بالمكان يمنح المنطقة قيمة روحية وثقافية كبيرة، كما يشكّلون نقطة تواصل حضاري مع المجتمعات الدولية، ما يعزز حضور المنطقة في المشهد العالمي ويقوي مكانتها.
خلاصة القول إن الحفاظ على الوجود المسيحي في الشرق الأوسط ليس خيارًا، بل ضرورة وطنية وإنسانية، فهو ركيزة من ركائز التعايش، وواجهة حضارية تعكس تاريخ المنطقة الغني وتنوّعها الفريد. إن قوة الشرق كانت دائمًا في تعدديته، واستمراره في هذا الطريق يتطلب حماية جميع مكوّناته دون استثناء.