عندما ننظر الى المشهد.. نجده يشبه لوحة غامضة تتشكل ببطء.. كأن ثلاثة خطوط خفية تلتقي في نقطة مجهولة.. لتصنع شكلاً يزداد وضوحاً كلما اقتربت منه العين.. مثلث لا يبدو خطيراً في بدايته.. لكنه ما أن تكتمل أضلاعه.. حتى تكشف زواياه عن سرٍ ثقيل.. سرٌ هو مدار هذا الحديث.. ومدار الألم الذي نحياه دون أن نعرف متى بدأت الحكاية.. ولا مَن الذي رسم أول خطٍ فيه..
وحين نقترب أكثر.. نجد أن أضلاع المثلث ليست حجراً.. ولا ورقاً.. بل بشرٌ تتغير حياتهم كل يوم.. شباب يتأرجح مصيرهم فوق خيطٍ مشدود بين الحاجة والخيبة.. ومجتمع يختنق شيئاً فشيئاً.. لأن ثلاثية الفقر والبطالة والعنوسة.. لم تعد أرقاماً في تقرير.. ولا ظواهر اجتماعية.. قدر ما أصبحت ملامح وطنٍ يتراجع صوته.. بينما يعلو الصدى في الخارج.. كأن أحداً يحاول أن يخبرنا.. بأن الخطر ليس في الظِلال.. بل في الجدار نفسه..
والسؤال الذي لا يهدأ.. مَن الذي صنع هذا المثلث؟!.. مَن الذي سمح لأضلاعه أن تتصل.. حتى تحولت إلى فخٍ كبير يبتلع أحلام الناس؟!.. ليست الطبيعة هي مَن فعلت.. ولا القدر.. ولا الظروف العابرة.. بل هو اقتصاد هشٌ.. أُهمل حتى أصبح قادراً على هدم ما تبنيه الناس في أعمارها.. اقتصادٌ لم تستطع الحكومات المتعاقبة أن تنهض به.. لدرجة أن بعضها لم يقدر حتى على حماية استثماراتٍ قائمة.. فغادر مَن غادر.. وتقلص وضاق الحال على مَن بقي.. حتى أصبح المستثمر المحلي يخاف من ظل قراراتٍ غير مفهومة.. وضبابٍ إداري لا يبدد الظلمة.. بل يزيدها كثافة..
ومع كل مشروع يغادر بصمت.. كانت فرصة عمل تُطفأ.. وكان شابٌ يفقد طريقه.. وكانت فتاةٌ ترى حلمها في تأسيس أسرة يتراجع خطوة بعد خطوة.. حتى أصبحت العنوسة ليست خياراً اجتماعياً.. بل نتيجة اقتصادية بحتة.. نتيجة غياب القدرة.. لا غياب الرغبة.. ومع البطالة التي اتسعت.. بدأ الظل المظلم يمتد على المجتمع.. ليقود البعض إلى طرقٍ لا تليق بهم.. إلى التطرف.. وإلى المخدرات.. وإلى الجريمة.. وإلى الهجرة بكل أنواعها.. حتى إلى حروبٍ لا علاقة لنا بها.. إلا بجيوب شبابٍ يبحثون عن ثمن الحياة بأي شكلٍ كان..
هذا المثلث لم يتشكل عبثاً.. ولم ينشأ صدفة.. بل كان ثمرة سنواتٍ طويلة من العجز الحكومي.. من غياب الرؤية.. ومن استسهال الحلول المؤقتة.. حتى أصبح الخطر أكبر من أي حكومة.. وأكبر من أي وزير.. وبات يهدد نسيج المجتمع نفسه.. فكل ضلع في هذا المثلث يضرب الآخر.. وكل زاوية تعزز الثانية.. حتى أصبح الوطن مهدداً بأن يفقد شبابه في الداخل.. أو في الخارج.. ويستيقظ يوماً.. فيجد نفسه بلا عمود فقري يحمل اسمه..
وإن كانت الحكومات السابقة قد تركت إرثاً من الخسائر والخيبات.. فإن الواجب اليوم يقع بثقله على الحكومة الحالية.. التي لا تملك فسحة الانتظار ولا رفاهية الأعذار.. فإما أن تكسر هذا المثلث المرعب.. وإما أن يكتمل انهياره على رؤوس الجميع.. عليها أن تضرب بيدٍ قوية لحماية ما تبقى من الاستثمارات.. وأن تفتح أبواباً جديدة لا بالكلام.. بل بالعمل.. وأن توقف نزيف المشاريع التي تهرب.. وكأنها تهرب من نار.. فالاقتصاد الذي لا يحميه صاحبه.. لا يحميه أحد..
وليس نشازاً أن نستغل كل نافذة تفتح أمامنا.. حتى إن كانت نافذة رياضية.. فمشاركة منتخبنا الوطني في تصفيات كأس العالم القادمة ليست مجرد مباراة.. ولا مجرد حلم جماهيري.. بل فرصة ذهبية لتسويق الأردن اقتصادياً وسياحياً.. فرصة لأن يعرف العالم أننا موجودون.. وأننا قادرون.. وأننا نستحق أن نُزار.. وأن تُستثمر أموالٌ على أرضنا.. فالدول الذكية تجعل من كرة القدم صناعة.. وليس مجرد صرخة فرحٍ في ليلةٍ تنتهي بعد صافرة..
إن كسر مثلث الدمار ليس خياراً سياسياً.. ولا مطلباً شعبياً فقط.. بل واجب وجودي.. لأن المجتمعات لا تنهار حين تنخفض أرقامها.. بل حين يفقد شبابها قدرتهم على الحلم.. وإذا لم نتحرك اليوم.. سنجد أنفسنا غداً نقف على أنقاض وطنٍ كان قادراً على النجاة.. لكنه لم يجد مَن يمسك بيده في اللحظة الفاصلة..