وقفة مع العثلول .. قراءة في خطاب الصورة والسلوك الدبلوماسي
السفير الدكتور موفق العجلوني
12-12-2025 02:20 AM
تبدو اللغة العربية قادرة، كما هي دائماً، على تحويل التفاصيل الصغيرة إلى رموز ذات دلالات ثقافية واسعة. ومن بين هذه التفاصيل كلمة "العثلول" او التي تناولها معالي الدكتور عادل الطويسي فيي مقاله المنشور في عمون الغراء بعنوان " السفير ابو عثلول ، و التي يعرّفها التراث اللغوي. كما اشار الدكتور الطويسي بأنها خصلة طويلة بارزة من اللحية، أو جزء منها يتدلّى على الصدر، وقد تُستعمل للدلالة على اللحية الكثّة السابغة.
و كما اشرت في مقال سابق حول "الظهور الاجتماعي للسفراء " إن هذه الكلمة "العثلول / اللحيةً الطويلةً ليست مجرّد مصطلح لغوي ، بل تحوّلت إلى مفتاح قراءة لسلوك دبلوماسي أثار اهتمام الرأي العام في الأردن، حين صارت تُذكر كناية عن سفير الولايات المتحدة الأميركية الجديد، ذي اللحية البارزة التي لفتت الأنظار.
إذ لم يتوقف حضور السفير " جم هولتسنايدر " عند حدود المشهد البصري، بل تجاوزه إلى سلسلة من النشاطات الميدانية التي شغل الأردنيين على منصات التواصل الاجتماعي ، زيارات، تعازٍ، مشاركات اجتماعية، تواجد لافت في مناطق مختلفة من البلاد. ورغم أن سفراء آخرين … مارسوا نشاطات مشابهة، إلا أن السفير الجديد بدا أكثر حضوراً في الوعي العام، وكأن "العثلول" أصبح رمزاً إعلامياً يرافقه في كل خطوة.
برايي المتواضع ، التحليل الدبلوماسي، لا يُعدّ الظهور الاجتماعي أمراً ثانوياً. فالدبلوماسي المعاصر لا يعمل فقط خلف الأبواب المغلقة، بل ينفتح على المجتمعات، و يتواصل مع الناس، ويقرأ نبضهم. وهنا يبرز سؤال أثاره بعض المتابعين:
هل السلوك الذي يُظهره السفير الأميركي مفرط في الحضور؟ أم أنه جزء من واجبه الطبيعي؟.
التعليقات الشعبية تباينت: فهناك من رأى أن هذا السلوك غير معتاد، وربما مفرط في "التموضع الاجتماعي". و كما اشرت في مقالات سابقة فأنّ نشاط السفير عادي ومحمود، بل يساعد في تعزيز الانطباع الإيجابي عن انفتاحه على المجتمع، و"جاذبية" العثلول التي أضحى رمزاً شعبياً له، سواء على سبيل المزاح أو الاعجاب.
وبالتالي يجب ان نميز بين الشكل والمضمون، بين الصورة وعمق الوظيفة الدبلوماسية، مؤكداً أن السفير ليس "معتقلاً" داخل أسوار سفارته، بل هو ممثل لدولة يسعى لفهم المجتمع المضيف والاقتراب منه.و هذا باعتقادي حال معظم السفراء في دول العالم .
السلوك الدبلوماسي بين العرف والابتكار
من منظور السياسات العامة، تختلف المدارس الدبلوماسية بين الانغلاق والانفتاح.بعض الدول تفضل الحضور المكتبي الرسمي، بينما تنتهج دول أخرى – كالولايات المتحدة – ما يمكن تسميته "الدبلوماسية العامة المتحركة"، وهي استراتيجية ترتكز على التواصل المباشر مع الجمهور، لا الاكتفاء بأصحاب القرار.
تحويل العثلول من وصف لغوي إلى رمز دبلوماسي هو حالة تستحق التوقف. معالي الدكتور الطويسي استثمر الصورة الخارجية للسفير ليعبر عن قربه من الناس، وبساطة حضوره، و"شرعية" نشاطه الاجتماعي، ولكنه فعل ذلك بأسلوب يجمع بين الطرافة والرصانة.
هذا التوظيف اللغوي الذكي للدكتور الطويسي عكس قدرته على قراءة المزاج الشعبي الذي التقط شكل السفير قبل مضمون سلوكه، ونسج حوله تعليقات ممتدة. وهكذا أضحى "العثلول" وسيلة غير مباشرة للحديث عن جدل السلوك الدبلوماسي وحدود القبول الاجتماعي له.
خلاصة القول، فان السفير الأميركي مرحب به في الأردن، ليس فقط بصفته ممثل دولة صديقة، بل بصفته شخصية أظهرت انفتاحاً اجتماعياً محموداً. و كافة سفراء الدول الشقيقة و الدول الصديقة مرحب بهم في الاردن على المستوى الرسمي و المستوى الاجتماعي . ولعل الدعوة التي يقدّمها الدكتور الطويسي لزيارة منزله في عمّان ووادي موسى تحمل دلالة مضاعفة دبلوماسية بلا تكلف، وإنسانية بلا رسميات.و هذا حال كل الاردنيين تجاه السفراء.
أما الاعتذار الطريف للدكتور الطويسي عن عجزه عن إيجاد ترجمة دقيقة لكلمة "عثلول" فهو بحد ذاته رسالة: أن اللغة والثقافة يمكن أن تكونا جسراً للتقارب، لا حاجزاً للفهم.
وهكذا يتجاوز المقال حدود وصف "العثلول" إلى وقفة دبلوماسية عميقة تسأل عن وظيفة الصورة، ودور السلوك الاجتماعي، ومكانة الدبلوماسي في المجتمع الذي يعمل فيه، من دون أن تخرج عن روح الدعابة العربية الأصيلة.
* السفير الدكتور موفق العجلوني
مدير عام مركز فرح الدولي للدراسات والابحاث الاستراتيجية
muwaffaq@ Ajlouni.me