نذير عبيدات: حينما يكون الكرسي أصغر من الموقف .. وعقدة الأردنيين مع الاوكسجين
د. حمزة العكاليك
15-12-2025 02:31 PM
حيث تتصارع الكراسي مع المبادئ فتصرعها بالضربة القاضية، وحيث يُعتبر المسؤول خالداً في منصبه ما لم تقتلعه جرافة التعديل الوزاري، خرج علينا ذات يومٍ رجلٌ يُدعى نذير عبيدات، ليضرب بقواعد الفيزياء السياسية الأردنية عُرض الحائط. ففي العادة، يلتصق المسؤول بكرسيه مبرراً الفشل بالمؤامرات أو بقلة الموارد أو حتى بتقلبات الطقس. لكن عبيدات، الطبيب الذي جاء وزيراً في زمن الوباء، قرر أن يعلمنا درباً من دروب المبادئ في السياسة الاردنية: أن يحمل حقيبته ويرحل، لا لأنّه ضغط الزر الخطأ بيده، بل لأنّ أخلاق الفرسان تقتضي أن يترجل الفارس حين يكبو الحصان، حتى لو لم يكن هو من وضع الحجر في الطريق.
لعلّ قصة الأردنيين مع الأكسجين باتت تحتاج إلى مراجعة فلسفية، أو ربما إلى رقية شرعية سياسية. فما بين رئة مستشفى السلط التي جفّت عروقها ذات صباح حزين، وبين مدافئ الغاز التي باتت تغتالنا في غرف نومنا، خيطٌ رفيعٌ من الاختناق. في حادثة السلط، توقف الأكسجين فرحل ستة من الأحبة، فقامت الدنيا ولم تقعد، وكان نذير اسماً على مسمى، فأنذر الجميع بأن المسؤولية ليست مجرد حبرٍ على ورق، بل هي جمرةٌ تحرق اليد التي تمسك بالقرار. لم ينتظر الرجل تشكيل لجان التحقيق ولم يختبئ خلف عباءة الموظف الصغير المقصر، بل وقف في ساحة المستشفى، والوجع يعتصر ملامحه، ليعلن استقالته الأدبية والسياسية والأخلاقية، مقدماً درساً بليغاً في أن المناصب زائلة، وأنّ الذكرى هي التي تبقى، وأنّ الاعتذار فعل الأقوياء، لا حيلة الضعفاء.
واليوم، ونحن نودع أربعة عشر مواطناً – نعم، ضعف عدد ضحايا السلط وأكثر – قضوا اختناقاً بسبب المدافئ ونقص الأكسجين أيضاً، نجد أنفسنا أمام مشهدٍ سريالي مغاير. أين المسؤول الذي يخرج ليقول: أنا أتحمل المسؤولية لأنني سمحت بمدافئ رديئة، أو لأنني لم أراقب الأسواق كما يجب؟ بدلاً من ذلك، تُغرقنا التصريحات الرسمية بسيلٍ من الأرقام: ضبطنا كذا، وخالفنا كذا، وأطلقنا حملة توعية. يا سادة، الإحصائيات لا تصنع رئةً، وحملات التفتيش التي تأتي بعد الكارثة تشبه وضع العربة أمام الحصان الميت؛ فهي حركة بلا بركة. الفرق شاسع بين من يرى في الاستقالة تطهيراً للمؤسسة واحتراماً للدم، وبين من يرى في البقاء ستراً للعورة الإدارية.
إنّ المفارقة المضحكة المبكية تكمن في أن الدولة، ورغم قسوة المشهد في السلط، لم تلفظ نذير عبيدات. لم يتحول إلى منبوذ كما يظن عشاق الكراسي، بل زاد احترام الناس والنظام له، وعاد ليتصدر المشهد الأكاديمي رئيساً لجامعة عريقة. وكأن الرسالة الملكية الخفية كانت تقول: من يحترم نفسه، نحترمه، ومن يصدق مع شعبه، نصدقه. لطالما نادى جلالة الملك بضرورة تحمل المسؤولية السياسية.
نذير عبيدات، في موقفه ذاك، مارس نوعاً من السخرية الراقية من واقعنا المترهل. سخر بفعله من كل مسؤولٍ يتشبث بالمنصب وأسنانه تصطك خوفاً من فقدان النمرة الحمراء. لقد قال لهم بصمتٍ أبلغ من الكلام: الاستقالة ليست انتحاراً، بل هي ميلادٌ جديد. في السلط، كان الأكسجين مقطوعاً عن الأنابيب، لكن أكسجين الكرامة كان يضخ بقوة في عروق الوزير المستقيل. أما اليوم، وفي مواجهة غزوات المدافئ، يبدو أن الأكسجين متوفر في الجو، لكنه مقطوعٌ عن دوائر القرار التي لا تزال تبحث عن كبش فداء صغير، تحمله وزر سياسات ورقابة عرجاء.
لقد أثبتت الأيام أن نذير عبيدات لم يخسر شيئاً حين غادر، بل ربح نفسه وربح تاريخه. أما أولئك الذين يظنون أن البقاء في المنصب هو الغاية، فهم واهمون؛ فالتاريخ لا يرحم، والذاكرة الشعبية الأردنية قوية، تميز جيداً بين من استقال ليحفظ ماء الوجه العام، وبين من بقي وعرقه يتصبب– أو ربما لا يتصبب أصلاً. إن عقدة الأردنيين مع نقص الأكسجين لن تُحل بأسطوانات غاز جديدة، ولا بتوصيات لجان تنعقد في غرف مكيفة، بل تُحل بـ أكسجين سياسي نظيف، يستنشقه المسؤول فيشعر بوجع المواطن، ويغادر حين يعجز عن حمايته، تماماً كما فعل ذلك الطبيب الذي داوى جرح السلط باستقالته، قبل أن يداويه بمشرطه.
وختاماً، نتساءل: هل ننتظر نذيراً جديداً؟ أم أن علينا أن نقتنع بأن الاستقالة في عرفنا الإداري هي طفرة جينية حدثت مرةً ولن تتكرر؟ المدافئ تشتعل، والأرواح تصعد، والمسؤولية لا تزال تتقاذفها الأيدي ككرة نارٍ لا يريد أحدٌ أن يمسك بها. رحم الله من رحلوا، وأعان الله من بقي ينتظر دوره في طوابير الاختناق أو طوابير التبرير، فالنتيجة واحدة، والوجع واحد، والمسؤول.. لا يزال يبحث عن مخرج طوارئ!