محطة استراتيجية في مسار الشراكة الأردنية – الصينية
السفير الدكتور موفق العجلوني
16-12-2025 07:26 AM
شكّلت زيارة عضو المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني ووزير خارجية جمهورية الصين الشعبية معالي السيد وانغ يي، إلى الاردن ، ولقاءاته مع جلالة الملك عبد الله الثاني حفظه الله و معالي وزير الخارجية وشؤون المغتربين السيد أيمن الصفدي، محطة سياسية ودبلوماسية بالغة الدلالة، تعكس عمق العلاقات الأردنية–الصينية، وانتقالها المتدرّج من إطار التعاون التقليدي إلى شراكة استراتيجية شاملة ذات أبعاد سياسية واقتصادية وإنسانية وثقافية.
تأتي هذه الزيارة في توقيت إقليمي ودولي بالغ الحساسية، ما يمنحها أهمية مضاعفة. فقد أكّد الجانبان، من خلال محادثاتهما والبيان المشترك، حرص قيادتي البلدين على ترجمة الإرادة السياسية إلى خطوات تنفيذية عملية، لا سيما عبر تفعيل الاتفاقيات ومذكرات التفاهم، وتوسيع آفاق التعاون في قطاعات حيوية تشمل الاقتصاد، والتجارة، والاستثمار، والبنية التحتية، والطاقة، والنقل، والدفاع، إضافة إلى مجالات المستقبل كالتكنولوجيا المتقدمة، والاقتصاد الرقمي، والذكاء الاصطناعي، والطاقة الخضراء.
ويعكس الاتفاق بين البلدين على عقد مشاورات سياسية سنوية بين وزارتي الخارجية مستوى متقدماً من الثقة المتبادلة، ورغبة واضحة في إدامة التنسيق السياسي إزاء القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك.
و أبرزت المباحثات تطابقاً لافتاً في المواقف حيال القضية الفلسطينية، حيث شدد الطرفان على ضرورة وقف شامل ودائم لإطلاق النار في غزة، وإيصال المساعدات الإنسانية بشكل مستدام، وربط ذلك بأفق سياسي حقيقي يفضي إلى قيام الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة على خطوط الرابع من حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
وفي هذا السياق، يثمن الاردن مواقف الصين الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني، ومبادرات الرئيس شي جينبينغ ورؤاه السياسية تجاه القضية الفلسطينية . في حين أشاد الجانب الصيني بالدور الأردني المحوري في حفظ الاستقرار الإقليمي، وبالوصاية الهاشمية التاريخية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس.
هذا و قد اشرت في عدة مقالات سابقه منشورة في الاعلام ، ان العلاقات الاردنية الصينية هي علاقات نموذجية تقوم على الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والبحث عن المصالح المشتركة بعيداً عن الاستقطابات الحادة.
بنفس الوقت تنظر الصين الى الاردن باعتباره ركيزة استقرار وعقلانية سياسية في الشرق الأوسط، في حين يتعامل الأردن مع الصين كشريك دولي صاعد يمتلك رؤية تنموية طويلة الأمد، لا تختزل العلاقات في البعد الاقتصادي، بل تربطها بالسياق الحضاري والثقافي والإنساني.
كما أن نجاح العلاقات الثنائية لم يكن وليد الاتفاقيات وحدها، بل نتاج دبلوماسية هادئة وتراكمية، لعبت فيها العلاقات الشخصية والمهنية بين السفراء الأردنيين والسفراء الصينيين دوراً محورياً. وقد لمست ذلك من خلال علاقاتي الوثيقة مع اصحاب السعادةً السفراء الصينيين، في الاردن منذ عام ٢٠٠٥ و القائمة على الحوار المعمق، والاحترام الثقافي المتبادل، وفهم الخصوصية الحضارية الصينية.و كذلك اثناء تراسي وفد الاردن لمنتدى التعاون العربي الصيني في احد السنوات في بكين ، و ما لمسته من تقدير و احترام الى الاردن و القياده الاردنية .
ما يميز البيان المشترك لهذه الزياره هو التركيز الواضح على التفاعلات الشعبية، والتبادل الثقافي، والتعاون الأكاديمي والإعلامي، والتبادل الطلابي، والتواصل بين المؤسسات الفكرية. ويعكس هذا التوجه قناعة راسخة لدى البلدين بأن الشراكات الاستراتيجية الحقيقية لا تكتمل دون بناء جسور بين الشعوب، وتعزيز الفهم المتبادل بين الأجيال الصاعدة.
وفي عالم يشهد تحولات متسارعة، يبرز النموذج الأردني–الصيني، كما اشرت اليه في مقالات سابقة ، انه نموذجاً لعلاقات متوازنة بين دولة عربية ذات ثقل سياسي وأخلاقي، وقوة دولية صاعدة تبحث عن شراكات قائمة على التعاون لا الهيمنة، وعلى الحوار لا الصدام.
و تؤكد زيارة وزير الخارجية الصيني إلى المملكة أن العلاقات الأردنية–الصينية دخلت مرحلة نضج استراتيجي، تقوم على المصالح المتبادلة، والاحترام السياسي، والتقاطع في دعم الاستقرار الإقليمي والقانون الدولي، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
وفي الوقت ذاته، يواصل الأردن، بحكمته السياسية ونهجه المتوازن، ترسيخ سياسة خارجية تقوم على تنويع الشراكات دون استبدالها، وعلى بناء الجسور بين الشرق والغرب، مستفيداً من مكانته كدولة عقلانية، موثوقة، وذات مصداقية دولية.
ويمثل هذا النهج أحد أبرز عناصر القوة في الدبلوماسية الأردنية، التي يقودها جلالة الملك حفظه الله ، حيث نجح الأردن في الحفاظ على علاقات استراتيجية متينة مع الولايات المتحدة وأوروبا، بالتوازي مع تطوير علاقاته مع الصين والقوى الدولية الصاعدة، دون الوقوع في محاور أو استقطابات حادة.
باعتقادي ، حان الوقت الان الانتقال من الاتفاقيات إلى التنفيذ و وضع برامج زمنية واضحة لتفعيل الاتفاقيات ومذكرات التفاهم، خصوصاً في مجالات الاستثمار، والطاقة، والبنية التحتية، والاقتصاد الرقمي. و تعميق الشراكة الاقتصادية النوعية و التركيز على مشاريع ذات قيمة مضافة للاقتصاد الأردني، ونقل المعرفة والتكنولوجيا، وليس الاكتفاء بالاستثمار التقليدي أو التبادل التجاري. و تعزيز التعاون في مجالات المستقبل ، و توسيع التعاون في الذكاء الاصطناعي، والطاقة المتجددة، والابتكار التكنولوجي، بما ينسجم مع أولويات التنمية الوطنية الأردنية.
علاوة على توسيع التبادل الثقافي والأكاديمي
و دعم برامج التبادل الطلابي، والتعاون بين الجامعات ومراكز الأبحاث، وتعزيز تعليم اللغة والثقافة الصينية في الأردن والعكس.
العمل ايضاً على تعميق التنسيق السياسي والدبلوماسي و الاستمرار في التشاور المنتظم حيال القضايا الإقليمية والدولية، والبناء على التقارب في المواقف المتعلقة بالقضية الفلسطينية واحترام الشرعية الدولية.
بنفس الوقت ، لا بد منً ترسيخ سياسة التوازن الإيجابي ، و الاستمرار في بناء علاقات قوية مع الصين دون أن يكون ذلك على حساب الشراكات الاستراتيجية الراسخة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. و تقديم الأردن كنقطة التقاء لا كساحة تنافس ، و تعزيز صورة الأردن كجسر حوار وتعاون بين الشرق والغرب، وليس طرفاً في صراع النفوذ الدولي. و التمييز بين التعاون الاقتصادي والتموضع السياسي ، و توسيع الشراكات الاقتصادية مع الصين ضمن إطار يحافظ على الثوابت السياسية والأمنية الأردنية وعلاقاته التقليدية مع الغرب.
من جهة اخرى، لا بد من تعزيز الدبلوماسية متعددة المسارات، و الاستثمار في الدبلوماسية الرسمية والبرلمانية والثقافية والفكرية، بما يوسع هامش الحركة السياسية ويعزز استقلالية القرار الوطني. و الاستفادة من المصداقية الأردنية الدولية ، و توظيف الثقة الدولية بالأردن كدولة معتدلة ومسؤولة، لتعزيز دوره في الوساطة، وصناعة التوافقات، وجذب الدعم السياسي والاقتصادي من مختلف الشركاء.
وًكما هو معلوم ، إن الحكمة في السياسة الخارجية الأردنية تكمن في إدارة التنوع في الشراكات لا المفاضلة بينها، وفي تحويل العلاقات الدولية إلى أدوات دعم للاستقرار والتنمية الوطنية. وفي هذا السياق، تشكل العلاقة مع الصين إضافة استراتيجية مهمة، تُدار بعقلانية وتوازن، وتتكامل مع الشراكات الأردنية العميقة مع الولايات المتحدة وأوروبا، بما يخدم مصلحة الأردن العليا ويعزز دوره الإقليمي والدولي .