بدعوة ملكية ورؤية مستقبلية: الأردن والهند يؤسسان لتحالف المعرفة
أ.د احمد منصور الخصاونة
16-12-2025 12:57 PM
لم تكن زيارة رئيس وزراء جمهورية الهند ناريندرا مودي إلى المملكة الأردنية الهاشمية زيارة بروتوكولية عابرة، ولا محطة عابرة في روزنامة الدبلوماسية التقليدية، بل جاءت بدعوة كريمة من جلالة الملك عبدالله الثاني لتؤسس لمرحلة جديدة ومختلفة في مسار العلاقات الثنائية بين البلدين. مرحلة تتجاوز لغة المجاملات السياسية واللقاءات الشكلية، وتتجه بثقة ووعي نحو بناء شراكة إستراتيجية عميقة، تستند إلى المصالح المتبادلة، وتقرأ تحولات العالم بعيون المستقبل لا الماضي. فقد بات واضحاً أن هذه الزيارة تحمل في جوهرها رسالة سياسية واقتصادية مفادها أن الأردن والهند يسعيان إلى إعادة تعريف علاقتهما ضمن سياق عالمي جديد، تقوده المعرفة وتتحكم بمساراته التكنولوجيا المتقدمة.
في عالم يُعاد تشكيله على إيقاع التحول الرقمي المتسارع، لم تعد القوة تُقاس فقط بحجم الموارد أو عدد السكان، بل بمدى القدرة على إنتاج المعرفة، وتوظيف التكنولوجيا، وبناء اقتصاد قائم على الابتكار. من هنا، تبدو هذه الزيارة بمثابة إشارة واضحة إلى إدراك القيادتين لأهمية الاستثمار في المستقبل، لا في الماضي، وإلى قناعة راسخة بأن الاقتصاد الرقمي لم يعد خياراً ترفياً، بل ضرورة إستراتيجية لبناء الاستقرار والنمو وتعزيز التنافسية. فالحديث عن التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، والتحول الرقمي، لم يعد خطاباً نظرياً، بل أصبح محوراً أساسياً في سياسات الدول التي تسعى إلى تأمين مكان لها في خريطة العالم الجديدة.
كما تعكس الزيارة وعياً متقدماً بأهمية تنويع الشراكات الدولية، والانفتاح على تجارب ناجحة خارج الأطر التقليدية. فالهند اليوم تمثل نموذجاً عالمياً في كيفية تحويل التحديات السكانية والتنموية إلى فرص، من خلال الاستثمار في التعليم الهندسي، وبناء منظومات رقمية ضخمة، وتأسيس بيئة حاضنة للشركات الناشئة والابتكار. والأردن، بدوره، يملك من المقومات البشرية والعلمية ما يؤهله للاستفادة من هذه التجربة، وتوظيفها في مساره الوطني نحو اقتصاد رقمي أكثر شمولاً واستدامة.
إن هذه الزيارة، بما تحمله من رمزية وتوقيت، تؤكد أن العلاقات الأردنية الهندية مقبلة على تحول نوعي، قوامه الانتقال من التعاون التقليدي إلى شراكة معرفية وتقنية، تعزز بناء القدرات، وتفتح آفاقاً جديدة للتنمية، وتمنح الأجيال القادمة أدوات حقيقية للمشاركة في صناعة المستقبل، لا الاكتفاء باستهلاكه.
الهند اليوم ليست مجرد دولة ذات كثافة سكانية هائلة، بل قوة اقتصادية صاعدة بسرعة لافتة، تُعد من أسرع الاقتصادات الكبرى نمواً في العالم. لقد نجحت خلال العقود الأخيرة في بناء نموذج تنموي قائم على المعرفة، وعلى استثمار ذكي في التعليم الهندسي، والبحث العلمي، وريادة الأعمال. ومن خلال هذا المسار، أصبحت الهند لاعباً رئيسياً في مجالات التكنولوجيا، والتصنيع المتقدم، والدفاع، والتحول الرقمي، والذكاء الاصطناعي، وحتى الحوسبة الكمية التي تمثل الجيل القادم من الثورة التكنولوجية.
في هذا السياق، يملك الأردن فرصة حقيقية لنسج علاقة اقتصادية نوعية مع الهند، علاقة لا تقتصر على التبادل التجاري التقليدي، بل تتجه نحو نقل المعرفة، وبناء القدرات، وتوطين التكنولوجيا. فالأردن، بما يمتلكه من رأس مال بشري مؤهل، وبيئة تعليمية جيدة، وطموح وطني واضح للتحول الرقمي، يستطيع أن يستفيد من التجربة الهندية الغنية في تنظيم القطاع التقني، وتطوير السياسات الداعمة للاقتصاد الرقمي، وبناء منظومات فعالة للابتكار وريادة الأعمال.
إن أحد أهم مكاسب هذه الشراكة المحتملة يتمثل في الاستثمار في بناء المهارات الرقمية، خصوصاً في مجالات البرمجة، وتطوير البرمجيات، وتحليل البيانات، والذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني. فالهند راكمت خبرة طويلة في تأهيل ملايين المبرمجين والمهندسين الذين يعملون اليوم في كبرى الشركات العالمية، أو يقودون شركات ناشئة ناجحة. ويمكن للأردن، عبر برامج تعاون ذكية، أن يستفيد من هذه الخبرات في تطوير مناهجه التعليمية، وبرامج التدريب المهني، وربط التعليم بسوق العمل الرقمي العالمي.
ولا تقف الآفاق عند حدود بناء القدرات البشرية، بل تمتد لتشمل فرصاً واسعة أمام الشركات التقنية الأردنية. فالسوق الهندية، بما تحمله من تنوع واتساع، تشكل بوابة استراتيجية نحو آسيا وإفريقيا، وهما من أسرع الأسواق نمواً في العالم. ومن خلال الشراكات مع شركات هندية، تستطيع الشركات الأردنية الناشئة والمتوسطة أن تدخل سلاسل القيمة العالمية، وأن توسع نطاق أعمالها، وأن تتحول من شركات محلية إلى لاعبين إقليميين وربما دوليين.
تمتلك الهند منظومة تقنية متكاملة قلّ نظيرها، تبدأ من تعليم هندسي واسع النطاق، وتمر بشركات تكنولوجيا عالمية عملاقة، وتنتهي بمجتمع شركات ناشئة يتجاوز عدده مئة ألف شركة. هذه المنظومة لم تنشأ صدفة، بل كانت نتاج سياسات طويلة الأمد، واستثمار مستمر في البنية التحتية الرقمية، وفي تشجيع الابتكار، وتسهيل الأعمال. وقد أثمرت هذه الجهود عن اقتصاد رقمي يُعد اليوم من الأكبر عالمياً، حيث بلغ حجمه نحو 370 مليار دولار أميركي في عام 2023، مع توقعات بتجاوزه حاجز التريليون دولار بحلول عام 2030، ليصبح ثالث أكبر اقتصاد رقمي في العالم من حيث مستوى الرقمنة على مستوى الاقتصاد الكلي.
بالنسبة للأردن، فإن الاستفادة من هذه التجربة لا تعني استنساخها، بل تكييفها بما يتناسب مع الخصوصية الوطنية والإمكانات المتاحة. فالأردن قادر على أن يكون مركزاً إقليمياً للخدمات الرقمية، وحاضنة للشركات الناشئة، وجسراً يربط بين الخبرة الهندية والأسواق العربية. ويتطلب ذلك إرادة سياسية واضحة، وشراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص، واستثماراً مستداماً في الإنسان قبل التكنولوجيا.
إن زيارة مودي إلى عمّان، في هذا التوقيت بالذات، تحمل دلالات عميقة تتجاوز بعدها الثنائي، وتخرج عن إطار الزيارات الرسمية التقليدية، لتلامس جوهر التحولات الكبرى التي يشهدها العالم. فهي تعكس إدراكاً مشتركاً لدى القيادتين بأن موازين القوة في القرن الحادي والعشرين لم تعد تُصنع بالسلاح وحده ولا بالموارد الطبيعية فقط، بل بالمعرفة، والقدرة على الابتكار، والاستثمار الذكي في الاقتصاد الرقمي. كما تؤكد قناعة راسخة بأن الدول التي تتأخر عن هذا المسار ستجد نفسها على هامش التاريخ، فيما تتقدم الدول التي تبني سياساتها على العلم والتكنولوجيا والشراكات الحقيقية.
وتأتي هذه الزيارة في لحظة إقليمية ودولية دقيقة، تتشابك فيها التحديات الاقتصادية مع التحولات الجيوسياسية، وتتعاظم فيها الحاجة إلى نماذج تعاون قائمة على المصالح المتبادلة لا على المجاملات أو الشعارات. من هنا، فإن التقارب الأردني الهندي يحمل بعداً إستراتيجياً يتجاوز حدود البلدين، ويعكس توجهاً واعياً نحو بناء تحالفات ذكية مع قوى صاعدة تمتلك تجارب ناجحة في التنمية والتحول الرقمي. فالهند، بما راكمته من خبرات في التكنولوجيا والابتكار، تمثل شريكاً قادراً على الإسهام في صياغة مرحلة جديدة من التعاون الاقتصادي القائم على القيمة المضافة والمعرفة.
وعليه، يمكن النظر إلى هذه الزيارة بوصفها نقطة تحول حقيقية في مسار العلاقات الأردنية الهندية، لا مجرد محطة دبلوماسية عابرة. فهي تفتح الباب أمام وضع أسس تعاون إستراتيجي طويل الأمد، يتجاوز الاتفاقيات إلى بناء منظومات مشتركة في التعليم، والتكنولوجيا، والاقتصاد الرقمي، وبناء القدرات البشرية. كما تمنح الأردن فرصة لتعزيز موقعه في خارطة الاقتصاد الرقمي العالمي، ليس كمستهلك للتكنولوجيا فحسب، بل كشريك فاعل في إنتاجها وتطويرها.
وفي المحصلة، فإن ما تحمله هذه الزيارة من آفاق ورهانات، يمنح الأردن أدوات جديدة لمواجهة تحديات التنمية في القرن الحادي والعشرين، ويعزز قدرته على تحويل التحديات إلى فرص، مستنداً إلى رؤية قيادية تدرك أن المستقبل لا يُنتظر، بل يُصنع، وأن الشراكات الذكية هي أحد مفاتيحه الأساسية.