من التفكك إلى التماسك: إعادة تصور الدولة الوطنية
أ.د. أماني غازي جرار
16-12-2025 04:35 PM
في زمن تتسارع فيه مشاهد التفكك في الإقليم، وتتراجع فيه ثقة الشعوب بمؤسسات دولها، يعود مفهوم الدولة الوطنية إلى الواجهة بوصفه سؤالاً وجودياً لا ترفاً فكرياً.
فالدولة الوطنية ليست مجرد كيان سياسي أو إداري أو سلطة سياسية عابرة، بل هي الإطار الجامع الذي تتجسد فيه السيادة، وتُصان من خلاله الهوية، ويُدار عبره التنوع، وتُبنى فيه علاقة متوازنة بين الدولة والمجتمع. ومن هذا المنطلق، يصبح الحديث عن الدولة الوطنية حديثاً عن الاستقرار، والشرعية، والقدرة على البقاء في عالم مضطرب.
في الحالة الأردنية، يكتسب هذا المفهوم بعداً فلسفياً وعملياً خاصاً. فالأردن، منذ نشأته، لم يُبنَ على منطق الغلبة أو الإقصاء، بل على فكرة الدولة التي تستمد شرعيتها من التوافق، وتوازن بين السلطة والمسؤولية، وتحافظ على وحدة المجتمع رغم تعدديته.
فالدولة الوطنية في الأردن كانت بمثابة إطاراً حامياً للمجتمع ، ولم تكن يوما سلطة منفصلة عن الناس، بل تعبيراً عن عقد وطني تشكّل عبر التاريخ والتجربة الوطنية.
ويقوم الأساس الفلسفي للدولة الوطنية الأردنية على فكرة أن الاستقرار لا يُفرض بالقوة وحدها، ولا يُصان بالشعارات، بل يُبنى عبر الشرعية، واحترام القانون، والعدالة، والشعور العام بالانتماء. ففي مقابل نماذج انهارت فيها الدول حين تآكلت مؤسساتها أو تصادمت مع مجتمعاتها، حافظ الأردن على تماسكه لأنه أدرك مبكراً أن الدولة الوطنية هي شرط الوجود السياسي، وليست عائقاً أمام التعدد أو التحديث وبرامج الإصلاح.
وفي هذا السياق، لا يمكن فهم تماسك الدولة الوطنية الأردنية بمعزل عن فكر جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم، الذي شكّل مرجعية فكرية وسياسية في إدارة الدولة وتوجيه مسارها.
فقد ارتكز هذا الفكر على رؤية تعتبر الدولة الوطنية مظلة جامعة، تحمي التنوع ولا تصادمه، وتُعلي من شأن المواطنة، وتوازن بين متطلبات الأمن والاستقرار وضرورات الإصلاح والتحديث.
ويقوم هذا النهج على الإيمان بأن قوة الدولة لا تُقاس بقدرتها على الضبط فقط، بل بقدرتها على بناء الثقة، وتعزيز الشرعية، وربط الاستقرار بالتنمية، والانفتاح بالحفاظ على الثوابت الوطنية.
ومن خلال هذا الفهم، قاد جلالته الأردن لعبور أزمات إقليمية متلاحقة، مؤكداً أن الدولة الوطنية القادرة على الصمود هي تلك التي تُدار بالحكمة، وتُبنى على التوافق، وتُجدّد ذاتها دون أن تفقد هويتها.
ومن هنا، فإن إعادة تصور الدولة الوطنية في الأردن لا تعني سوى تجديد فهمنا لها بوصفها دولة قادرة على التكيف، وحاضنة للهوية، وضامنة للاستقرار، وجسراً بين الماضي والمستقبل في زمن تتزايد فيه المخاطر وتتراجع فيه اليقينيات.
لا تقوم الدولة الوطنية على مؤسساتها وحدها، كما لا تُختزل في سلطتها السياسية أو أجهزتها الإدارية، بل تتجذر في وعي المواطن بدوره وموقعه داخلها. فالمواطن في الدولة الوطنية الأردنية ليس مجرد متلقٍ للخدمات أو خاضع للقانون، بل شريك في الاستقرار، وحامل للهوية، وعنصر فاعل في حماية العقد الوطني. إن جوهر الدولة الوطنية يكمن في تحويل الانتماء من حالة عاطفية إلى ممارسة يومية، تتجسد في احترام القانون، والمشاركة الإيجابية، وتغليب المصلحة العامة على الحسابات الضيقة.
في التجربة الأردنية، لعب المواطن دوراً محورياً في حماية تماسك الدولة، خاصة في لحظات الأزمات الإقليمية والضغوط الاقتصادية والاجتماعية. فقد أظهر المجتمع الأردني قدرة عالية على التكيف ، وعلى الفصل بين الاختلافات المطلبية المشروعة وبين رؤية وأهداف الدولة القائمة على الشرعية.
هذا الوعي الجمعي لم يكن وليد الصدفة، بل نتاج مسار طويل من بناء الثقة المتبادلة بين المواطن والقائد الحكيم المتواضع، وترسيخ فكرة أن الدولة الوطنية هي الإطار الذي يحمي الجميع، لا طرفاً ضد طرف.
ويتعزز بذلك دور المواطن كلما شعر بأن الدولة تُنصت له، وتحترم كرامته، وتفتح أمامه مسارات المشاركة والتعبير.
فالدولة الوطنية القوية لا تخشى مواطنيها، بل تستمد قوتها منهم، وتعتبر النقد المسؤول جزءاً من حيويتها، لا تهديداً لوجودها.
ومن هنا، يصبح المواطن خط الدفاع الأول عن الدولة، لا عبر الشعارات، بل عبر السلوك اليومي والانتماء الواعي للمواطن.
وإلى جانب المواطن، تشكّل المؤسسات العمود الفقري للدولة الوطنية الأردنية. فالدولة لا تُدار بالأفراد مهما بلغت حكمتهم، بل تُصان عبر مؤسسات راسخة، واضحة الأدوار، تحكمها القواعد والمؤسسية.
فالمؤسسات في الدولة الوطنية ليست أدوات للضبط فقط، بل قنوات لتنظيم العلاقة بين السلطة والمجتمع، وضمان العدالة، والاستدامة، والاستقرار. ففي السياق الأردني، حافظت المؤسسات على دورها كصمّام أمان، خاصة في ظل محيط إقليمي شهد تراجع وبعض الحالات انهيار مؤسساتي واسع.
فقد مكّن وجود مؤسسات أمنية محترفة، وقضائية مستقلة، وإدارية مستقرة، الدولة من امتصاص الصدمات، ومنع انتقال الفوضى من الخارج إلى الداخل.
كما أسهمت السياسة الخارجية والمؤسسة الدبلوماسية العريقة في تثبيت موقع الأردن بوصفه دولة عقلانية، واضحة المواقف، قادرة على الدفاع عن مصالحها دون مغامرة. غير أن قوة المؤسسات لا تُقاس فقط بقدرتها على فرض النظام، بل بقدرتها على التجدد، ومواكبة التحولات، وتصحيح الأخطاء. فالدولة الوطنية الحيّة هي التي تسمح لمؤسساتها بالتطور، وتربط الإصلاح بالاستقرار، وتدرك أن الجمود أخطر من التغيير المنضبط الذكي المرن. ومن هنا، فإن تعزيز كفاءة المؤسسات، وتكريس سيادة القانون، وترسيخ المهنية، تمثل شروطاً أساسية لاستمرار التماسك الوطني.
وفي المحصلة، تتكامل أدوار المواطن والمؤسسات في الدولة الوطنية الأردنية ضمن معادلة دقيقة: مواطن واعٍ ومسؤول، ومؤسسات قوية وعادلة،وقيادة حكيمة إنسانية. وبهذا التكامل وحده، تنتقل الدولة من مجرد البقاء إلى التماسك، ومن إدارة الأزمات إلى بناء واستشراف المستقبل.
وفي الختام، وفي خضم ما شهده الإقليم من تفكك للدول، وتآكلٍ للمؤسسات، وصدامٍ بين السلطة والمجتمع، يبرز النموذج الأردني بوصفه تجربة مختلفة في صون الدولة الوطنية لا عبر القمع أو الانغلاق ، بل عبر الحكمة، والتوازن، وبناء التماسك الداخلي.
فالدولة الوطنية في الأردن لم تكن مشروعاً طارئاً أو استجابة ظرفية للأزمات، بل مساراً متدرجاً ارتكز على الشرعية، واحترام القانون، وحماية النسيج الاجتماعي، وربط الاستقرار بالإصلاح الممكن.
وقد شكّل سيد البلاد، جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم، الركيزة الأهم في هذا المسار، من خلال رؤية أدركت باكراً أن قوة الدولة لا تُقاس فقط بقدرتها على الصمود، بل بقدرتها على احتواء مجتمعها، وإدارة تنوعه، وتوجيه طاقاته نحو البناء لا الصدام.
فقيادة جلالته قامت على الجمع بين الحزم والمسؤولية، وبين الثوابت الوطنية والانفتاح الواعي، وبين حماية السيادة وصون الكرامة الإنسانية.
وعليه، فإن الدولة الوطنية الأردنية، في ظل القيادة الهاشمية،دامت راعية للمواطن، فلم تنفصل عن مواطنيها يوما ، ولم تتعالَ على مؤسساتها، بل حافظت على توازن دقيق جعلها قادرة على عبور العواصف الإقليمية دون أن تفقد بوصلتها.
ومن هنا، فإن الانتقال من التفكك إلى التماسك ليس شعاراً، بل ممارسة يومية تُدار بالحكمة، وتُصان بالثقة، وتُبنى على شراكة راسخة بين القيادة والمؤسسات والمجتمع.